دُنى غالي.. لعبة التأملات بوصفها “حياة شخصية”

  • صفاء خلف

تطلق دُنى غالي، الشاعرة والروائية العراقية المُقيمة في الدنمارك، سيرة شخصية حذرة بدفق من التأملات والالتقاطات كمشاهد مقتطعة من حياة معبأة بالتفاصيل، في مجموعتها الشعرية الجديدة “المراوح التي تلوح من بعيد”، الصادرة عن دار “سنابل” في القاهرة، مُحاولةً التجريب في الشكل والكتابة، ومعتمدةً على التداخل بين “ثريا النص” و”النص” نفسه، كإشارة ذكية لمنح الجملة الشعرية تعالقاً اكثر ألفة مع النص والموضوع، ومغادرة القطيعة بين النص و”العنوان”، بوصف الاخير – تقليدياً – “إضاءة” لا متن.

تجريبية دُنى، في مجموعتها الشعرية الثانية، بعد منجزها الأول “حديقة بعطر رجل” – التي صدرت بطبعتين، عن دار المدى العراقية، دمشق 2007، والمجلس الاعلى للثقافة، القاهرة 2008 – تحاول أن تقدم نصاً فسيحاً وهادئاً، بنبرة تأملية ناعمة، تعمل على إضاءة مناطق أليفة في الذاكرة لكنها “قد” تكون منّسية، غير أنها نشطة وتتدفق، تشكل اليومي والتاريخ الشخصي باللحظة ذاتها.

الصورة العاقلة، تظلل كغيمة أجواء المجموعة، التي تجهد في إيصال تلك الأصوات المقموعة الخفية

تقول دُنى في نص “مساء هانت سانكس”: “… والغزالة الشاردة تعود عبر النافذة/ تتوقف تتلفّت، تنظر إليّ لثوانٍ/ قبل أن تخفّ الخطى بین الضلوع إلى أعمق”. هذه الصورة العاقلة، تظلل كغيمة أجواء المجموعة، التي تجهد في إيصال تلك الأصوات المقموعة الخفية، بعراكها النادر يومياً، عن تلك الأفكار التي “تطّش” في الوقت وتضيع من دون اكتراث، كما تعبر عنها بنص في “هذه المدينةُ أمانٌ”: “لي في مواقفِ الباصات، شواهدُ على ضحكةٍ في السرّ، على فكرةٍ مجنونةٍ أتركُها، مع نصف سیجارة، شيء غیرِ قابلٍ للسَّحق، قبل أن أصعد”.

جاءت المجموعة الشعرية، في ستة أبواب، جرّبت فيها دُنى، أن تمارس طقساً من الكتابة العابرة لـ”موجّهات التلقي”، المعتادة في تسميات الأبواب، لتحيل المتلقي إلى لعبتها المحببة الوصفية، مستفيدة من تقنيات السرد. فجاءت عناوين الأبواب، كجملٍ شعرية طويلة وكأنها لعبة احتمالات للدخول إلى النصوص، وتشي بالمناخات والروائح والظلال التي لامستها دُنى في سيرتها التأملية داخل الحياة لا خارجها.

شكلت بُنية المجموعة 42 نصاً، وكانت العناوين جزءاً من النصوص، كتقنية استمرارية، تتوالد ولا تنقطع، تعيش ولا تنفصل عن مشيمة النص، وحتى لا تبدو كبابٍ موصدٍ يأخذُ المتلقي في ممرٍ طويلٍ حتى آخر النص، باتجاه فكرة واحدة لا تتشعب. هنا تريد دُنى أن تشير إلى الغرق في تفاصيل العيش، وآلاف الأفكار التي تحيا وتموت بلحظتها،  وتلك الأسرار الصغيرة التي تُشكل صورة الكائن في عُزلته الخاصة، عن الاستجابة للتحولات النفسية الغامضة، كما في نص “أن تمر كل يوم بالأمكنة المعتادة”.

لعبة تفاصيل يومية شاقة، تنفرد بالحياة والكائن وورطته في العلاقات المضنية مع العالم، فيما يكون الشعر، كمنفذٍ طيّع ومتعالٍ أحياناً للتعبير عن كمٍ هائلٍ من الهواجس، هو يستعيد – أي الشعر – جميع تلك اللحظات، كشيطان لعوب، ينقض على الذاكرة ويفترس منها التفاصيل المحببة، تقول دُنى في نص “من قال إننا نحن الجميلات”: “… ومَن قرأ شِعراً على الحدود، ورسَمَ الغمامة، ومن نام ووجهه في التراب، ومن عَبَرَ وإلى اليوم لم يصل”.

لغة دُنى في مجموعتها، لغة طيّعة. لم تكترث كثيراً بجمود التقنيات الحاكمة لقصيدة النثر، فضّلت أن تشتغل على اللغة التي توصل الهواجس بمشقة الشعور، وكتبت بطريقة التفكير، فنجد جملاً مقطوعة في سياق متصل، كالأفكار التي تدخل فجأة بنسق أفكار مرتبة. لكنها لغة مطواعة سلسة لا تُعقد المعنى بل تحتفظ بنضارته.

أضف تعليق