النظام الصحي في العراق: الموت حرقاً بالفساد


صفاء خلف

نشر في السفير العربي – 29 تموز/ يوليو 2021


تظل ميزانية الصحة في العراق هي الأدنى مقارنة بموارد الأجهزة الممولة حكومياً من الموازنة العامة، لكن صراعاً اسطورياً يعصف بتلك الميزانية الضئيلة التي لا تتجاوز في أفضل السنوات تخصيصاً عن خمسة مليارات دولار، لارتباطها بسوق ضخم وقطاع نامي تصل قيمته ما بين 4 – 5 مليار دولار سنوياً تنشط فيه جماعات سياسية نافذة بالشراكة مع مافيات ادوية ومورّدين وفصائل مسلحة محلية وإقليمية، ما يشبه “كارتل فساد” عابر للحدود.

قُبالة المشكلات الصحية التي تغزو سكان البلاد المرهقة وهم يزدادون سنوياً بأعلى نسبة بشرية في المنطقة، ثَمَّة نقص هائل في البنية الصحية مع ندرة في الكوادر المؤهلة للعمل في القطاع الحيوي، بظل توسع الاهمال في حقل الصحة العامة، وهو ما أشرَ عليه ضعف استجابة العراق لأزمة Covid 19، بوصفه اعلى بلدان المنطقة تسجيلاً لإصابات ووفيات، وما نتج عنه موت 157 عراقياً حرقاً بـ”الكورونا” بحادثتين في بغداد والناصرية في فاصل زمني اقل من ثلاثة اشهر فقط، كنتيجة حتّمية لتمزق المنظومة الاستشفائية المنخورة بالفساد على مدى عقدين (منذ 2003)، وما سبقها من عقوبات أميركية – غربية خلال التسعينيات ومقتبل الالفية الجديدة (1990-2003) التي حطمت نظاماً صحياً، عُدَّ واحداً من اسرع القطاعات نمواً في منطقة الشرق الأوسط، ما زال العراق يستخدم بُنيتها الى الآن بما يفوق قدراتها التصميمية.

احتكار حقل الفساد

كواحدة من التمثلات العيانية الأليمة لفساد النظام الصحي، ثَّمة ثلاث حوادث تعبر عن فداحة الإهمال الحكومي الناتج عن “بيروقراطية الفساد” وتنافسية المصالح التي تتفشى بجسم الدولة العراقية اجمالاً، وفوضى اللعب بمصائر العراقيين ضمن صراعات حيازة النفوذ مع ضمان الإفلات من المحاسبة، ويمكن اعتبار الحوادث الثلاث غير المسبوقة، فواجع وطنية تؤكد على نحو مطلق عدم أهلية النظام الحاكم، ومدى استسهاله تقبل الناس لموتهم كصور من صور اليأس الجماعي واحتضان الموت كعزاء نفسي ومواساة خلاصية، واستسلام مفجع بأن تكون مواطناً في بلاد منهوبة.

اقتصاد الفساد في العراق، يستثمر أي أزمة لتخليق موارد مالية جديدة وتعميق نفوذ أكبر، وغالباً ما تكون الحلول أكثر كارثية من الازمة ذاتها، ما يتطلب حلولاً جديدة تتمدد عبرها دائرة الفساد وتغذي اطواقاً أكبر من المنتفعين لتتوسع الشبكة الزبائنية التي يكون المجتمع المتضرر نفسه شريكاً فاعلاً فيها. فالفساد في العراق لم يعد مؤسسياً ينحصر بأجهزة الدولة/ الحكومة/ الجسوم السياسية المكونة للنظام، بل بات فعالية تلقائية يومية تخلق لنفسها المسببات وتقترح الحلول التي تضمن ديمومتها بشراكة الدولة والمجتمع على طبقات ومستويات يصعب تفكيكها لتداخل المصالح بينها على نحو أكثر تعقيداً من الاجراءات المؤسسية الضعيفة لمكافحة الفساد، التي تظل عاجزة ومقيدة بظل امتلاك منظومة الفساد لأجهزة القضاء والمحاسبة والتشريعات وإنفاذ القانون. أي ان النظام يحتكر الأدوات جميعها ولا يسمح لـ”المجال العام” بامتلاك أدوات موازية تُسرّع الحَدّ من الفساد.

في النموذج العراقي، الفساد هو الطاقة الضامنة لوجود النظام السياسي الذي يقوم بمكافحتها وحمايتها في الآن نفسه، لمنع التآكل المتسارع للدولة، بخلق مصدات تؤجل الانهيار، لكن لا تمنعه ان حدث في أي لحظة، بعدما فقد النظام شرعيته بتراكم الفشل والأخطاء والكوارث، قبالة فقدان المجتمع للأهلية نتيجة تحطيم منظومته القيمية والأخلاقية وغياب الدولة الرشيدة الحارسة لتلك المنظومة. وبالنتيجة بات المجتمع وهو ما يُفترض ان يكون “المجال العام” المنافس للنظام السياسي في إدارة الدولة، يتحرك كقوة هائلة غير منضبطة تدافع عن مصالحها بالاشتباك مع النظام السياسي داخل حقل الفساد نفسه، وكأن معاولاً جديدة تضاف يومياً لتجهز على ما تبقى من فكرة الدولة في العراق.

 حرائق الدعاية الناعمة  

أَشرت محرقتي بغداد والناصرية، عن تملص قوى سياسية وحزبية وجماعات سلاح، من مشروع ما يُعرف محلياً بـ”المستشفيات الكرفانية – Caravan hospital”، والتي انطلقت حُمى بناؤها مع اشتداد Covid 19 في العراق بدءاً من ربيع 2020، كمشروع من مشاريع (استثمار الأزمة) والتأثير الناعم وغسيل السُمعة لأبرز جماعات السلاح الشيعي (كتائب حزب الله مثالاً) التي بَنَت في ذي قار وبابل والمثنى نحو خمس مشافٍ رخيصة الكلفة، مرتفعة الخطورة، لانعدام أدوات السلامة ومكافحة الحرائق، فضلاً عن مشافٍ اخرى بالمواصفات الرديئة نفسها، بنتهما إدارة العتبتين الحسينية والعباسية.

سارت في إثر الخُطى الناعمة وغسيل السُمعة، وزارة الصحة، لاستيعاب معدلات الإصابة المتزايدة على نحو مضطرد بالفيروس التنفسي، دون أي اكتراث بمتطلبات السلامة المُلّزمة التي ينصُ عليها قانون الدفاع المدني العراقي رقم (44) لسنة 2014، والذي يشترط شراكة الصحة في (اللجنة العليا لإدارة اعمال الدفاع المدني في عموم العراق)، لكن الوزارة المحكومة من مجموعات متنفذة ووزراء شكليين، منشغلة بإدارة اقتصاد صحي يدر اموالاً هائلة، وهامشاً ادارة المنظومة الصحية المتهالكة على نحو أكثر كارثية.  

صيّف 2020، شهد عاصفة استقالات لمديرين في الجسم الصحي بمدينة الناصرية تحديداً، نتيجة ضغوطات مارستها جماعات شيعية لرفضهم تجهيز مشافٍ كرفانية بمعدات الاستشفاء الحكومية من “كورونا”، أو تسليم مبنى المشفى التركي الضخم قيد التجهيز، لإدارته من قبل تلك الجماعات كسباً لاحتواء الغضب على انهيار الخدمة الصحية، وضَمهِ لاحقاً لإقطاعيات نهب الموارد العامة.

وجهت وزارة الصحة بعد (محرقة بغداد) بترك المشافي الكرفانية “حفاظاً على سلامة المرضى والعاملين في المستشفيات كافة من خطر الحرائق”، وكأن 7000 الاف حريق نشبوا في عموم العراق في الثلث الأول من العام 2021 وفقاً لوزارة الداخلية، لم تكن كافية لتطلق تحذيراً بالغ القوة لإخلاء الأبرياء من علب الكارتون المضغوط بوصفها مراكز عزل وبائي، وإيقاف مهزلة التسليع السياسي لمعاناة الفقراء بفشل النظام الصحي وانهياره. فـ”كتائب حزب الله” مثالاً، اعتبرت “عمليات الحرق الممنهجة تقف خلفها مافيات الفساد في وزارة الصحة”؛ مما يطرح سؤالاً بسيطاً، وإجابته غاية في التعقيد ومحكومة بالخوف: لمن تتبع مافيات الفساد تلك؟ من يديرها؟ ومن يستفيد منها؟  

فالحرائق التي تندلع؛ قد تكون الحوادث العرضية مسؤولة عن جزء ضئيل منها. لكن بالأغلب وسيّما تلك التي تصيب اقساماً إدارية ومالية واستثمارية في مباني الوزارات والمصالح الحكومية؛ فالصراع على النفوذ وتصفية الحسابات وإزاحة الخصوم والإيقاع بهم، أو إخفاء ادلة ووثائق تؤكد الفساد وتثبته، هي حرائق مدبرة بفعل فاعل سياسي، بوصفها الطريقة الأكثر سهولة واماناً ومتوقعة لشيوعها واعتيادها، ولا تبقي اثراً يُستدل منه على الجاني. لكن الصدفة احياناً تقود الى الجناة الذي يسارعون لطمس اثار محارق الناس بالمستشفيات، عبر حرق الطابق الإداري الرابع من وزارة الصحة غداة ليلة حرق مركز العزل الوبائي في الناصرية!

صورة مقطعية للفساد

تُقدر كلفة الرعاية الصحية للمواطن العراقي ما بيّن 154 الى 161 دولاراً سنوياً، وفقاً لمؤشرات البنك الدولي، وترتفع في أفضل مستويات التفاؤل النادرة والقياسية الى 239 دولاراً بحسب مؤشر (the Global Economy)، لكن التقارير المالية لوزارة الصحة تؤكد ان ما يُصرف فعلياً على المواطن سنوياً هو (166 ألف دينار فقط) أي اقل من 120 دولاراً، ما يجعل العراق الغني الاقل صرفاً على مواطنيه صحياً من بلدان أكثر فقراً مجاورة، كالأردن (304 دولار/ سنوياً) ولبنان (649 دولار/ سنوياً).

وجدلاً، فأن الحجم السكاني الأقل للأردن ولبنان مع ندرة مواردهما المالية، تفند فرضية ان الزيادة السكانية المضطردة للعراق تؤثر على موارد الصحة من الميزانية العامة، فالعراق لا يخصص الا اقل من 4.5٪ سنوياً من موازناته المليارية الهائلة على القطاع الاستشفائي، يذهب نصفها كموازنة تشغيلية فيما النصف الاخر لشراء ادوية لاتصل الى مستحقيها، ودفع ديون شركات خاسرة تتحطم قيمتها السوقية بفعل معرقلات الفساد عبر تعطيل القدرات الإنتاجية، الغش التجاري والمنافسة غير المشروعة.

الفشل المتسارع للنظام الصحي يؤثر على المستفيدين منه، مما يرفع من نسبة الأخطاء الطبية والوفيات الناتجة عنها، فضلاً عن النقص الشديد في توافر العلاجات المدرجة للتداول في العراق وعددها الكلي (3000) مستحضر دوائي، من بينها (1166) مستحضراً مُقرّة الاستعمال حكومياً، بضمنها (531) دواءً اساسياً منقذاً للحياة وللأمراض المزمنة والسرطانية. وما يتوافر من هذه الحِسبة هو 12٪ فقط، ما يمثل ضغطاً هائلاً على مؤسسات فاقدة لأدوات الاستشفاء، ويفتح سوقاً للمضاربة الدوائية والتلاعب بالأسعار والانواع، ويرفع من تدفق المرضى على المستشفيات بما يفوق قدراتها الاستيعابية المصممة على حجم سكاني ما قبل ثلاثة او أربعة عقود.

وكجردة حساب شاملة، أٌنفق بيّن اعوام 2003 وحتى 2011، نحو 53 مليار دولار كسيولة تشغيلية واستثمارية وأجهزة ومعدات ومستلزمات طبية من موازنات حكومية وحزم مساعدة دولية وأممية، لترميم المنظومة المتآكلة، والانتقال بها الى مرحلة التعافي ببناء هيكلية أكثر استجابة لمشكلات السُكان، لكن النتيجة ان ديوناً مليارية تراكمت على الوزارة وشركاتها لصناعة الادوية التي لا تساهم الا بأقل من 25٪ فقط من طلب السوق المحلي من المنتجات التقليدية، ما استدعى ذهاب ثلث ميزانية الصحة للعام 2019 الى دفع ديون (شركة كيماديا الحكومية) وانقاذها من الإفلاس.

ظل أثر محاولات إنعاش الجسم الصحي محدوداً، وفعالية تنشيط المنظومة طفيفة، حتى ان مقترحات غير حكومية طرحت مشروعاً لموائمة النظام الصحي العراقي مع النظام الصحي البريطاني الشهير (NHS)، فضلاً عن الدراسة المعمقة التي قدمها وزير الصحة الأسبق علاء العلوان الى حكومة عادل عبد المهدي (2019 – 2020)، وخلصت الى ان العراقي يُنفق 75٪ من موارده المالية للحصول على رعاية صحية لائقة خارج المؤسسات الحكومية محلياً او خارجياً، بينما المعدل العالمي المقبول، إنفاق 30٪ فقط فيما تدفع الدولة الأعظم من الفاتورة. وبدلاً ان تؤدي ورقة العلوان الى إصلاح القطاع، أدت الى استقالته اعترافاً بقوة ونفوذ مراكز إدارة الفساد داخل الوزارة والإجراءات البيروقراطية المعقدة لحماية الحصص المتقاسمة بينها.

واحدة من إشكاليات قوة الفساد في وزارة الصحة يعود الى الخلل البنيوي في التركيبة الإدارية، فالجسم الفني من أطباء وممرضين ومساعدين صحيين، يظلون محكومين بالغالب من مديرين عامين ووكلاء و(وزراء ظل) متحزبين عوضاً عن الوزير نفسه، وهولاء يرتبطون بـ”كارتلات” الفساد الحزبية والميليشياوية المتحالفة مع شركات القطاع الخاص المورّدة لاحتياجات المؤسسة الصحية، بالتالي فأن المستوى الأعلى من هرمية الوزارة يعوم في حقلٍ من الفساد المتشعب الذي تؤثر عقوده واتفاقاته سلباً على نوعية وجودة الخدمات المقدّمة الى المواطن، والتي احياناً تنعكس كاعتداءات غاضبة ضد الكوادر الطبية داخل المستشفيات. 

لا تنظر العقود والاتفاقات المبرمة الى الاحتياج الفعلي والنقص في الخدمة الصحية، بقدر ما تنظر الى مشتريات تدر ارباحاً وهامشاً مالياً كبيراً، حتى على حساب عدم توريد ادوية منقذة للحياة مقابل اغراق المخازن بمضادات حيوية سريعة التلف، ما يستوجب استيراد كميات إضافية مجدداً، او كعقد شراء (النعال الطبي – CrocsRx) في عهد الوزير الأسبق عديلة حمود (2014 – 2018) والمُسماة بـ”وزيرة الموت”، بقيمة 900 مليون دينار، إضافة الى عقود واطلاقات مالية لتشييد مستشفيات لم تنجز، تحولت أراضيها الى مشروعات استثمارية وساحات مفتوحة مؤجرة. فنحو 50٪ من أموال بناء مشافٍ جديدة في الأعوام الأربعة الماضية نهبت وتبخرت بحسب ما ثُبت ووثق رسمياً لدى هيئة النزاهة والمجلس الأعلى لمكافحة الفساد من طرف لجنة الصحة النيابية.

تحمي كارتلات الفساد في وزارة الصحة، أحزاب وعمائم وميليشيات. فالوزارة لا تتبع فصيلاً سياسياً بعينه، وان جيء مع كل تشكيلة وزارية جديدة بوزير يمثل حصة جماعة سياسية، الا ان الإدارة الفعلية تظل لـ”وزراء الظل” المتحكمين الفعليين والذي يُرسخون النفوذ الخالد للتيار الصدري بوصفه ابرز المتحكمين بالوزارة، وآخرين يمثلون جماعات وفصائل تقبض على جزء من أنشطة الصحة، كتوريد الادوية وملف شركات صناعة العقاقير الحكومية، وهؤلاء مرتبطين بحركتين شيعيتين نافذتين بلبنان مع شركات توريد إيرانية ولبنانية واردنية ومصرية فضلا عن ثلاثة مكاتب علمية محلية رئيسة يتم التعامل معها كغطاء توريد قانوني، ما يمكن اعتباره فساداً عابراً للحدود، وبحراً هائلاً يعج بالحيتان التي تتصارع على النفوذ الدوائي والتوريد الطبي في العراق.

عمليات الفساد الكبيرة تنخر القطاع الصحي العراقي (…) بدءاً من سرقة الأدوية أو استبدالها بأخرى منتهية الصلاحية، مروراً بسوء الخدمات المقدمة بالمستشفيات الحكومية، وتفكك المنظومة الأخلاقية للتعامل مع المرضى، وانتهاءً باستشراء المحسوبية والحزبية في مفاصل الوزارة، وفقاً لتوصيف منظمة الشفافية العراقية.

وزارة الصحة، أضحت في لحظة ما بعد حزيران/ يونيو 2014، احدى أبرز اقنية تمويل الجماعات المسلحة الشيعية في المنطقة، ومصدراً مهماً من مصادر تخليق الأموال وغسيلها. قيادات رفيعة بتلك الجماعات التي تَقوّنَنَ عملها شكلياً تحت مسمى “الحشد الشعبي”، كانت تقاتل بشراسة على بقاء الوزيرة حمود، رغم فساد عهدها المعلن، وغالبا ما كان “أبو مهدي المهندس” وهادي العامري يتصدون لدعوات اقالة “وزيرة الموت” كحارسين عتيدين لمنظومة الانتفاع، ولدعمها امام قوة التيار الصدري المهيمن في الوزارة التي باتت سوقاً مفتوحة لبيع المناصب بدءاً من حقيبة الوزير الى مديري الدوائر والمستشفيات في القطّاعات والمحافظات.

تحطيم إمكانات المؤسسة الصحية يعود بالنفع على مستفيدين كثر، بدءاً من كارتلات الوزارة وحتى مكاتب المحافظين ومجالس المحافظات التي تدير ايضاً تسفير المرضى الى الخارج، ومنذ عامين صارت المحافظات مسؤولة مباشرة عن دوائر الصحة العامة فيها، تطبيقاً لتفعيل اللامركزية الإدارية للتخفيف من سلطة بغداد على محافظات الهامش، لكن أدى ذلك الى تردٍ مضاف لجودة الخدمة الصحية على نحو مبهر. إخفاقات الصحة قادت المواطن للبحث عن خيارات تبقيه معافىً او حياً مع حزمة عِلل، وإن كانت تنهكه اقتصادياً، فكان البديل:

المشافي الاهلية الاستثمارية المحلية المُدارة اصلاً من رعاة الفساد، وكلفة العلاج فيها تكاد أغلى من التعالج خارجاً، ما يقود الى البديل الثاني، وهو سوق الاستغلال النفعي لغياب مسؤولية الدولة بحماية مواطنيها صحياً الموصوف بـ”السياحة العلاجية”، والتي يقدر اقتصادها السنوي في العراق بنحو مليار دولار على اقل التقدير.

غالباً، يتطبب العراقيون مُرغمين في إيران وتركيا والهند وماليزيا والأردن ولبنان، وفئة قليلة تستطيع النفوذ الى أوروبا. والتقرير التخميني المُعد بناء على التقارير الطبية المُصدّقة لدى وزارتي الخارجية والصحة، يؤكد أن “ما لا يقل عن 4 آلاف عراقي يغادرون شهرياً بغية العلاج”، للتدهور الشديد الحاصل في بنية الخدمة الصحية ورداءتها، فضلاً عن نقص الأطباء والكوادر لندرة التوظيف بسبب شحة التخصيصات المالية للصحة وثبات الميزانية التشغيلية قبالة ارتفاع نسبة الضغط على المستشفيات.

تُقدر مفتشية وزارة الصحة، الانفاق العلاجي للعراقيين من مدخراتهم سنوياً، ما بين 5 و6 ملايين دولار، ما تعتبره وفقاً لتقرير لها، انه “كاف لتشييد مستشفى كل ثلاثة أشهر، أو بناء ثلاثة مراكز صحية للرعاية الأولية كل شهر في العراق”.

لا تتوافر على نحو دقيق إحصاءات عن الانفاق العلاجي العام للعراق في الخارج، او ما ينفقه العراقيون من مدخراتهم على “السياحة العلاجية”، لكن مثالاً، عولج أكثر من 14500 عراقي في الخارج خلال العام 2013. وفي 2017 أنفق العراق نحو 200 مليون دولار على علاج جرحى من الجيش والشرطة و”الحشد الشعبي” في دول أخرى، وأنفق مبلغاً أكبر في العام 2016.

وبحسب أرقام وزارة الصحة الإيرانية لسنة 2017، كان 374 ألف عراقي هو معدل التطبب السنوي في البلاد. وفي العام 2018، أنفق العراقيون 500 مليون دولار في الهند وحدها التي منحت حوالي 50 ألف تأشيرة “سياحة علاجية” لعراقيين في العام نفسه، بحسب برنامج الإجلاء الطبي بوزارة الصحة، الذي ينقسم الى 14 لجنة تقرر تسفير المرضى. المسؤولون في البرنامج يرون ان “استقدام أطباء وكوادر علاجية الى العراق، اقل كلفة من ارسال مرضى عراقيين الى الخارج”.

هيكل النار المؤدي الى المحرقة

برزت تصدعات الهيكل الصحي الحكومي بعد حزيران/ يونيو 2014 على نحو أكثر وضوحاً وفشلاً، كواحدة من الهزات الارتدادية لزلزال جماعة “الدولة الإسلامية – داعش”، فتأثر عدد كبير من المشافي والمراكز الصحية في خمس محافظات تعرضت الى التدمير أو النهب أو تحولها الى مراكز استشفائية لعناصر الجماعة الإرهابية، دُمر معظمها بالعمليات العسكرية التي استغرقت نحو ثلاثة أعوام مريرة طُحنت بها البُنية الخدمية لتلك المناطق.

افترضت حكومة حيدر العبادي (2014 – 2018) إن اعمار المناطق المُدمرة، يستوجب 100 مليار دولار، رُصد منها تخميناً نحو 4.365 مليون دولار، لإعادة تأهيل المؤسسات الصحية، أي ما نسبته 4.9٪ من القيمة الكُلية لإعمار تلك المناطق. وعملياً لم تخصص الحكومة اموالاً إضافية على موازناتها السنوية الضئيلة (نحو خمسة ترليون دينار عراقي) المرصودة لتشغيل كامل النظام الصحي في عموم العراق ما عدا المنطقة الكردية الأفضل حالاً بوصفها اقليماً مستقراً يملك مشاف جديدة ومراكز علاجية متطورة، مع وفرة في عدد الأَسرة والأطباء بنسبة (1.5 سرير) و (1.4 طبيب) لكل 1000 نسمة، بما يقترب من المعدل العالمي.

دَلَّت أزمة (داعش) على هشاشة شبكة الصحة وضعفها باستيعاب الاستهلاك المتزايد مع استمرار العنف، تزايد معدلات النزوح، ارتفاع مسببات الإصابة بالأمراض بظل تهاوي نظام الخدمات العامة الأساسية، تلوث مصادر المياه، رداءة نوعية الهواء، شيوع سلالات من السرطانات، امراض الدم ومشكلات التغذية والصحة النفسية، انعدام السلامة في مواقع العمل، فضلاً عن تنامٍ مخيف لحوادث الطرق والحرائق، وشيوع التخلص من النفايات في الأماكن العامة، بما فيها النفايات الخطرة للمستشفيات، وانتهاءً بمؤثرات التغيّر المُناخي بالارتفاع القياسي للحرارة، قلة الامطار والجفاف، تراجع المساحات الخضراء مقابل سيادة التصحر الاخذ بالاتساع مع تناقص حصة مياه العراق المتدفقة من تركيا وايران.

تتراكم تلك المشكلات وتأثيراتها، مع قفزة عددية سكانية هي الأعلى عالمياً (3.6٪)، أي بمعدل زيادة سنوي ما بيّن 850 الفاً الى مليون ولادة، بينما حقق العام 2020 طفرة قياسية بلغت مليوناً و258 ألف ولادة. فنسبة السكان تتزايد أسرع من المتوقع، ما يستوجب خطة حكومية لتقنين الانجاب ليتناسب مع حجم الموارد المتناقصة وارتفاع حدود الفقر والبطالة وفشل الاقتصاد الوطني، فمع تزايد النسبة السكانية، يتزايد طردياً الضغط على المؤسسات الصحية التي تفشل في تلبية الطلب على خدماتها من السكان الذين حين ترتفع مؤشرات اصابتهم بأمراض، فأن الكُلف العلاجية تكون باهظة، وتستنزف موارداً أكبر من الموازنة العامة.

تزايد مؤشرات تردي الحياة العامة في العراق، يعني ان غالبية سكان البلاد معرضين للإصابة بشتى التغيرات المَرَضية بظل التدهور المستمر لنوعية وأساليب العيش. فالعراق صُنف بالمرتبة 13 بقائمة الدول الأكثر هشاشة ذوات الإنذار الأحمر العالي الخطورة، حيث ان مؤشر 120 نقطة يمثل المستوى الأكثر سوءاً، والعراق يحتل مؤشر 102 نقطة في الترتيب العالمي، كما انه يقع بالمستوى 160/180 ضمن الدول الأكثر فساداً.

هذه مؤشرات تدل ان الفشل الحكومي والتردي الصحي مع الزيادة السكانية الحاصلة، سيخلق ازمة صحية كبيرة على المدى السنوات القليلة المقبلة، ولعل ابرز مؤشراتها هو تصدر العراق لأكثر دول المنطقة تأثراً بـ Covid 19 بأكثر من (1.5) مليون إصابة، وأزْيَّد من (18 الف) وفاة، ما قد يعزز مخاطر ظهور سلالة متحورة جديدة من الفيروس لانعدام الحماية الوقائية الجدية من العدوى، والتلاعب السياسي بقرارات الاغلاق وحظر التنقل والاختلاط والتي غالباً ما تُكسر بعد إعلانها نتيجة ضغوط قوىً وجماعات سياسية او مسلحة تتأثر اقتصادياً او حركياً. فأزمة كورونا تم استغلالها على نحو فعال من طرف جماعات متطرفة للتحكم بمناخ الخوف ومد النفوذ واختبار مديات سطوتها إزاء القرارات الحكومية.

فتحت ازمة الفيروس التنفسي، باباً جديداً ضمن “اقتصاد العنف” المرتبط باقتصاد الجماعات المسلحة، لجهة انها تمتلك واجهات اقتصادية ومنها شركات سياحة وسفر او مختبرات فحوص مرضية أو توفر لها الحماية مقابل (اتاوات)، تبيع نتائج مزورة لاختبارات كشف الإصابة (سلبية أو ايجابية) لقاء مبالغ مالية بين 50 الى 100$، وبيع تراخيص واعفاءات التنقل في أوقات حظر التجوال، وصولاً الى بيع بطاقات التلقيح المزورة بـ 200$.

وبلغ الاستغلال السياسي للازمة الى قياس الشعبية او ولاء الاتباع، وهو المشروع الذي ابتدعه زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر، تمهيداً لانتخابات يؤمل عقدها في تشرين الأول/ أكتوبر المقبل، لحساب قاعدته الشعبية رقمياً على نحو دقيق، ضمن (مشروع البُنيان المرصوص)، وفي مرحلة منه مبكرة وغير معلنة، طالب الصدر اتباعه بالتطعيم ضد الفيروس و”إلا اعتبرهم خارجين عن التيار”، وهو مؤشر إضافي على النفوذ الواسع للصدريين داخل وزارة الصحة التي تميّزهم عن بقية مواطنيهم، قفزاً على أولويات التطعيم ضد الفيروس وفقاً لجدول الفئات الأكثر هشاشة واستحقاقاً.

بالنتيجة، النظام السياسي في العراق غير آبه بالحفاظ على صحة مواطنيه، ولا يسعى الى تحسين الخدمة الصحية الا من بوابة الانتفاع والاستيلاء على مكاسب مالية واقتصادية، فالتطاحن على النفوذ داخل وزارة الصحة أدى الى محارق أليمة واخطاء طبية جسيمة وتحطم الجودة ونزع ثقة المواطن بمؤسساته الوطنية وشعوره ان الاستشفاء حكومياً هو العتبة المجانية الى الموت، بظل هجرة الخبرات والكفاءات حتى من قبل حديثي التخرج، فسنوياً يدخل يتخرّج نحو 1500 طبيب جديد، يسعى 25٪ منهم الى وظائف خارج البلاد، نظراً لمخاطر العمل في الداخل مع تزايد الاعتداءات وضعف الدولة بحماية الثروة البشرية الطبية. فيما يظل المواطن رهينة قوى الفساد القابضة والتي تدير القطاع بعقلية الاملاك المنهوبة بقوة “البلطجة السياسية” والسلاح والمضاربة بالقيمة السوقية لقطاع الاستشفاء.

أضف تعليق