انتخابات العراق: تحولات الشيعية السياسية من “الشراكة” الى الانفراد بالسلطة

صفاء خلف

نشر في السفير العربي – 18 تشرين الثاني/ نوفمبر 2021

افرّزت تجربة الانتخابات التشريعية العراقية في 2018، عقب التهشم العنيف لقدرات النظام السياسي على اثر تقدم جماعة (الدولة الاسلامية)، عن تفكك القوى الشيعية التقليدية الماسكة بالسلطة وتراجعاً لفرضية “الانسجام الطائفي الهجين”، وهشاشة التماسك الشيعي امام تنامي انقسام الجبهة الداخلية وطموحات الانفراد والازاحة والاستحواذ على الثروة العامة بظل تنامي التسلح والعسكرة.

سعت المجموعات الشيعية في اقتراع 2018، الى حيازة كتل تصويتية اعلى لنفسها مما يتيح هدم البُنية القديمة لتقاسم السلطة على اساس (شراكة – محاصصة) تمثيل الجسم الشيعي داخل اطار الدولة، والذهاب الى صيغة جديدة ترتكز على حصر السلطة لدى الفصيل الاكثر تمثيلاً نيابياً، بمعنى الانتقال من (الماكرو – التمثيل الواسع) الى (المايكرو – التمثيل المحدود) مع الحفاظ على البنية الصلبة لنظام (ثيو-كيلبتوقراطي) يتشارك فيه الجميع دعم السلطة المُحافظة عبر تشاركية إدارة الفساد. 

تنافس مُلاك السلاح

التنافس بين مُلّاك السلاح الشيعي، بالذهاب الى مغامرة الانفراد والازاحة كادت تودي الى صدام مُسلح حينذاك، لاسيما بين التيار الصدري، وتحالف الفتح الممثل لجماعات “الحشد” المدعومة ايرانياً وابرزها “عصائب أهل الحق”، لكن التدخلات الخارجية ابتكرت وصفة (شراكة – محاصصة) مشوهة على نحو متداخل ومعقد وهش في الآن نفسه مع المكوّنين الكردي والسُني من اجل “ضبضبة” نظام متفكك يحاول ايقاف تمدد جماعة متطرفة، عبر تمكين وتمدد فصائل طائفية وعشائرية وعرقية مسلحة خارج الدولة.

فتمكين فصائل شيعية تحرس النظام السياسي وتكون رديفاً للدولة، ايضاً عَنَى للصدريين تقويضاً لاعتبارهم “القوة المسلحة الوحيدة الاقوى”، وتكسيراً لانفرادهم بـ”حق حماية الطائفة”، ومحواً “لمقاومتهم الاحتلال”، ازاء صعود قدرات منشقين عنه واكتسابهم شعبية انفعالية مُسوّغة طائفياً نظراً لقتالهم في سورية، حيث قفز تمثيل العصائبيون – مثلاً – الى 15 مقعداً في برلمان 2018، بعدما كان مقعداً واحداً في نسخة المجلس النيابي السابقة.

الوصفة التوافقية لتشكيل سلطة ما بعد 2018، كانت تعويماً للديمقراطية وصورة للتفكك والانفلاش المستمر لفكرة العقد الاجتماعي – السياسي، وتدميراً ممنهجاً لـ”الحرية السياسية” وحق الاختيار عبر التصويت، بظل فوضى الاستقطاب الطائفي ونزوح العقل السياسي نحو تأييد السلاح الضامن للاستقرار المرحلي الهش. تلك الوصفة قوّضت ما تبقى من الثقة بامكانية اصلاح النظام وتطهيره، وقادت الى تعزيز حالة الفصام بين السلطة والشارع المتحفز الى اعلان تمرده عبر هبة احتجاجية نادرة وفريدة (2019 – 2020) كادت تنجح بولادة نظام جديد، لولا الخرق الذي حققه الصدريون في صفوف الحركة الاحتجاجية.

تشرين: هراوة لإزاحة المنافسين

قوضت “احتجاجات تشرين” مسعى الجماعات الشيعية الحشدية، بتسويق مشروع قتال (الدولة الاسلامية) باعتباره بديلاً عن النظام المترنح عبر الانفراد بالسلطة عبر “الاغلبية السياسية”، فسقطت حكومة عبد المهدي المسماة من تلك الجماعات بعدما اظهر الاحتجاج مدى تراجع شعبيتها. لكن الصدريين لعبوا ادواراً متناقضة لحماية النظام المهترئ، بدءاً من مشروع “الاصلاح” والتحالف مع الشيوعيين، ومن ثم الانخراط ودعم الحركة التشرينية، انتهاءً بالانقلاب عليها، والعودة الى ضفاف المشروع الانعزالي بتأسيس “سلطة صدرية”.

حالة الانقسام والتشظي الجمعي في العراق، هي السمة البارزة التي تنبثق منها التناقضات المتممة لعجز النظام النظام السياسي والمعادلة الوجودية الضامنة له، فكل جماعة تشكل لنفسها خطاباً فئوياً تتحرك به داخل حقل منعزل عن الآخر، فحتى “احتجاجات تشرين” هي لحظة انفجار شعبي انفعالية هائلة ايضاً، لكنها لم تثمر الا عن كيانات مصابة بذات امراض الاعتلال السياسي، تُسلط طاقتها على الاشتباك المضني مع حزمة القوى المكونة للنظام دون ان تتجاوزها الى بديل يُسقط تلك القوى ويفتت النظام بما يمهد لنشوء ديمقراطية اكثر انفتاحاً من النسخة الانغلاقية الراكدة.

بدا الصدريون، الاقرب استغلالاً للنقمة الشعبية المتنامية، مع امتلاكهم أداة مناورة مرنة تتمثل بمقتدى الصدر ومحاولاته فصل نفسه عن التيار سياسياً باعتباره “مصلحاً وفقيهاً شعبياً”، ما منحهم القدرة على تعزيز النفوذ داخل النظام ودعم الاحتجاج في الآن نفسه. ومع تنامي الحركة الاحتجاجية التي ووجهت بالقتل المعلن والقمع الوحشي، برع الصدريون عبر خطيّن: الاول: حماية النظام وابتزازه من الداخل مقابل حيازة مكاسب اكبر ومساحة نفوذ اوسع. والثاني: استمرار الصدر النأي بنفسه بعيداً عن النظام والمطالبة بـ”الاصلاح” وتبني مطالب المحتجين، بالتالي  يحجز لتياره موطئاً في مرحلة ما بعد النظام.

ورغم إن اسقاط حكومة الحشديين (كابينة عبد المهدي)، مَثَلَ بارقة أمل لقوى الاحتجاج ورافضي النسخة المُعتلة للنظام السياسي، إلا ان البديل لم يكن اكثر نجاحاً، وبرهن على قوة الصدريين بحماية النظام وقبض الثمن بتشكيل حكومة مصطفى الكاظمي المؤقتة، واحكام السيطرة على بقية مفاصل الدولة تمهيداً لحصد مخرجات “احتجاجات تشرين” عبر اقتراع مبكر عقدت في تشرين الاول الماضي، جاءت نتائجها مطابقة للسعي الصدري بهيمنة نيابية تتيح لهم تشكيل حكومة تعبد الطريق للبقاء طويلاً في السلطة.

والنتيجة المؤسفة لحركة الاحتجاج التشرينية المعبرة عن تطلعات جيل وطني غاضب، افضت الى صعود الصدريين، الذين اعادوا انتاج “تشرين” كهراوة شعبية حطموا بها طموحات منافسيهم من شيعة السلاح الحشديين او من الليبراليين الوسطيين كمجموعتي حيدر العبادي وعمار الحكيم، اما قوى تمثيل الحركة التشرينية هي الاخرى لم تتمتع بثقة او شعبية.

الصدريون خططوا منذ البداية عبر اقرار قانون الدوائر المتعددة الصغيرة على سحق منافسيهم وحلفائهم معاً، فيما حثوا عبر لجانهم الالكترونية والميدانية غير المعلنة على مقاطعة الانتخابات وخصوصاً في الدوائر التي ينشط بها منافسون حشديون او تشرينيون، وتقليل زخم كتلة التصويت غير المتوقعة لصالحهم، والدفع بالكتلة الصدرية التصويتية الى المشاركة على نحو مؤثر، وهو ما يمكن تسميته بتكتيك (المقاطعة العامة والتحشيد الذاتي)، وهو ما اتبعه ائتلاف دولة القانون ايضاً، ليكون ثاني اكبر كتلة شيعية بعد الصدريين مستفيداً من خسارة الحشديين واستثمار الزبائنية التي تغذيها الشبكة العائلية لرئيس الوزراء الاسبق نوري المالكي. سُنياً ايضاً تبنى تحالف تقدم (جماعة محمد الحلّبوسي)، وكردياً الحزب الديمقراطي الكردستاني (جماعة بارزاني)، ذات التكتيك في دوائرهم الانتخابية.

وازاء تهشم القوى الشيعية، تحطمت قدرة الاسلام السياسي السُني ايضاً، مع تقادم الحزب الاسلامي وشيخوخته، وصعود (الجماعات الاستثمارية السُنية) المتوطنة بقلب فساد الشيعية السياسية، فصعود تيارا محمد الحلبوسي وخميس الخنجر، هو صورة لانتهازية النظام السياسي بتكسير نشوء بيئة صالحة لنمو ديمقراطية قادرة على انتاج تمثيل حقيقي لارادة الناخبين ببناء سلطة نظيفة تعالج الفشل المتراكم.

مخاوف الصعود الثأري

تكمن خطورة الصدريين انهم تنظيم عقدي انعزالي شعبوي مسلح، لا يؤمن بالشراكة الا بحدود الحفاظ على توازن صوري لنظام يتجه يوماً بعد آخر نحو نشوء ديكتاتورية مقدسة تقودها عمامة شعبوية، وبالتالي فأن مخاوف حملة السلاح بعد خسارتهم المدوية، وجماعات تشرين بحيازتهم 12 مقعداً متوزعة بين جماعة حراك الناصرية (إمتداد) وجماعة حراك العتبة العباسية (اشراقة كانون)، تبدو اكثر نعومة من شراسة تيار الصدر وهو يكتسح المشهد نحو “ولاية فقيه” بصيغة عراقية.

صُدمت القوى الحشدية بأن شعبيتها كانت وهماً، لذا حاولت انكار النتائج والتشكيك بها، والذهاب الى تسويق نظرية التزوير الالكتروني عبر الوسط الناقل للنتائج بمعونة دولة خليجية، كمسعى تصعيدي قد يفضي الى اكتساب مقاعد اعلى، غير ان اعتراف مجلس الامن الدولي بصحة اجراءات مفوضية الانتخابات، اوقع الكتل الخاسرة والمؤتلفة بـ”الاطار التنسيقي الشيعي” بحرج مواجهة قوى دولية تدعم الصعود الصدري وتعزز مصداقية النتائج، فضلاً عن الضغط الايراني على الفصائل بضرورة القبول بحصصها النيابية المتواضعة واللجوء الى حوار شيعي – شيعي قد يُقنع الصدريين بتشكيل حكومة شراكة جديدة.

يتألف “الاطار التنسيقي الشيعي” الرافض لنتائج الانتخابات، من ستة قوى شيعية: (تحالف الفتح –الحشديون وابرزهم منظمة بدر وعصائب اهل الحق/ ائتلاف دولة القانون – جماعة نوري المالكي/ تحالف قوى الدولة – تيارا حيدر العبادي وعمّار الحكيم/ حركة عطاء – جماعة رئيس هيئة الحشد الشعبي فالح الفياض/ حركة حقوق التابعة لكتائب حزب الله/ حزب الفضيلة – الجماعة السياسية للمرجع محمد اليعقوبي)، كمجموعة ضغط هشة غير متجانسة تسعى لكبح تشكيل حكومة صدرية منفردة عبر عقلانية الحوار وترتيب المشهد برعاية اقليمية – دولية، ما عدا “عصائب اهل الحق” و”كتائب حزب الله” اللتان تدفعان نحو تصعيد عنفي قد يفضي الى حكومة حصص متساوية.

مخاوف القوى الحشدية ومنهم العصائبيون، تتأتى من جملة الاعلانات والنوايا التي اطلقها مقتدى الصدر والتي تمثل قلب البرنامج الحكومي للكابينة الصدرية، بضرورة تفكيك الوية وفصائل الحشد الشعبي ودمج “المنضبطة” منها بالجهاز الامني المؤسسي الرسمي على شاكلة اندماج الفصائل المسلحة للعتبات الشيعية بوزارة الدفاع، وهو ما يرى فيه الحشديون ظاهراً، تهديداً وجودياً لمشروعهم واضعافاً لـ”محور المقاومة”، ومقدمة لتصفية القوة العقائدية التي تحاول التحول الى “حرس ثوري”، ما يعني تصفية للنفوذ الايراني في العراق، قبالة تعزيز القوة الاميركية وجرّ بغداد لتبني “الاتفاقات الابراهيمية” والتطبيع. أما باطناً تتأتى خشيتهم من قدرة التياريين كحكومة توظف “سرايا السلام” والقوات الرسمية بغطاء دولي على سحقهم بأية مواجهة مسلحة مقبلة بوصفهم منفلتين وخارجين على الدولة.

العنف كأداة لخفض التوتر

غالباً ما يلجأ الفاعلون السياسيون في العراق الى توظيف العنف كرسائل بليغة لرفع سقف الحوار والابتزاز وحيازة مكاسب، فحتى الجماعات السياسية غير المُشغلة لمسلحين تتحالف مع جماعات عنفية، فيما القوى السلمية غالباً ما تكون على الهامش، وتفشل في منافسة قوى البنادق والمُسيّرات، ولا تحظى حتى باحترام الشارع المشدود الى القادرين على اختراق المؤسسات وتوطين الفساد وتوسعة الزبائنية وفرص التوظيف.

اعتادت القوى الشيعية تبادل رسائل العنف كواحدة من الممارسات الانتخابية، للوصول الى تسويات تضمن الامتيازات وتمنع الملاحقة وتكبح الطموحات التي تهدد التوازن المحسوب بدقة استثمار موارد الدولة لصالح تغذية تلك القوى.

رسائل العنف غالباً ما تنجح بخفض التوتر بين المتعاركين، وتفضي بهم الى الحوار القائم على الاتفاقات البينية السرية والتقاسم المزري للسلطة، فالطموحات السياسية تتمأسس على “الازاحة والاستئثار”، والعنف الموضعي وحده من يدفع الطامحين الى “المحاصصة” من الانزلاق الى عنف اكبر. فناتج انتخابات 2018 كان انقساماً عززه صعود قوى السلاح الشيعي الى الندوة النيابية لأول مرة، فأجج ذاك الصعود رفض الصدريين، ما فتح ردود العنف.

وما بيّن التجربة السابقة والحالية تكرر المشهد. ففي العاشر من تموز 2018، أقدم مسلحون على حرق العشرات من صناديق الاقتراع. حاول مقتدى الصدر تبرئة نفسه وتياره، فيما التحقيقات الرسمية دلت على مسؤوليتهم، وحينها تحرك مقتدى الصدر كـ”مانح بركة” لتشكيل “حكومة صدرية ابوية”، فردّت قوة شيعية منافسة على حراكه، بتفجير دموي لمخزن سلاح في قلب المدينة الصدرية شرق العاصمة خلف 18 قتيلاً وعشرات الجرحى، وأذاب شريطاً طويلاً من منازل عائلات فقيرة. بالمحصلة؛ افضى العنف الموضعي المتبادل الى ولادة حكومة شراكة هجينة هيّمن عليها الحشديون، واسقطها الصدريون كواحدة من مخرجات “تشرين” فيما بعد.

ورغم تبدل المسرح الانتخابي  في تجربة 2021، إلاّ إن البئر المالحة للازاحة والاستئثار ظلت تنضح بذات الممارسات العُنفية. فعلى سبيل الاعتراض على الحصيلة الانتخابية، اطلقت “عصائب أهل الحق” و”كتائب حزب الله” مجاميعهما لحصار “المنطقة الخضراء”، وشحنت الاجواء بروح الانتقام من الخسارة بضرورة اقتحامها، بالتزامن مع بدء مقتدى الصدر لسلسلة لقاءات نادرة مع قوى واحزاب في العاصمة تمهيداً لتشكيل حكومته، فاسفر التصعيد عن قتيلين عصائبيين وانسحاب الصدر من بغداد معلناً فشل مفاوضاته. بالمقابل ردّت جهة غير معلومة بقصف دار ضيافة لمجلس الوزراء يديرها جهاز المخابرات بطائرة مُسيّرة، واعتبر الهجوم رغم ضعف ادلة، محاولة لـ”اغتيال” رئيس الحكومة الكاظمي. فانخفض التصعيد باتجاه الذهاب الى ابتكار صيغة متوقعة جديدة من الشراكة الهجينة.

الرسائل التحذيرية العنيفة المتبادلة ليست صدفة او تنفيس عن غضب، فالصراع على السلطة داخل الشيعية السياسية يمكن ان يذهب الى ابعد من حرائق وهجمات صاروخية واغتيالات، لضمان البقاء في السلطة والاستمرار بعملية سياسية اشبه بادارة مرزعة اقطاعية، لدى مُلاكها خالص النية باحراقها ان مست مصالحهم العتيدة.

تحولات الشيعية السياسية

تَرَشّح عن التجارب الانتخابية الاربع التي خاضها العراق، وقائع ومتغيرات لانماط الانقسام والازاحة التي لم تفلح بترسيخ “الديمقراطية” كواقعة طبيعية محمية بالدستور ووعي المجال العام ببناء منظومة حكم تستند الى ادارة رشيدة، بل كرست عملية سياسية تُسيّر بـ”الازمات”، أما تداول السلطة فقد ظل شكلاً من اشكال تدوير الحصص داخل نظام هجين.

تمايزت النسختان الانتخابيتان التأسيسيتان (2005- 2006)، انهما عقدتا بضغط اميركي مباشر لاسناد مرحلة الانتقال من حقبة ما قبل الغزو العسكري المُبرر بفتح المنطقة على الديمقراطية. بينما كانت النسخة الثالثة (2010) كانت انعكاساً للاستئثار بالسلطة بظل الغليان الطائفي والانقسام المذهبي، وانقلاباً للشيعية السياسية بحراب نظيفة على الفائز انتخابياً، استعملت فيها أدوات كارثية لتكريس السلطة لدى مكون بعينه عبر تكسير مبدأ “التداول السلمي”، حين حرمت اللائحة الاكثر اصواتاً – لائحة إياد علاوي – من تشكيل الحكومة، ترسخ فيها حكم فردي لـ”المالكي” على مدى ثمان سنين، مورست فيها حيلاً واتفاقات بينية تسببت بكوارث أمنية وسياسية، أبرزها الغضب السُني على السلطة المركزية ونتيجته سقوط الموصل وخمس محافظات، فضلاً عن الانفصالية الكردية التي استثمرت ادواتها في مخيال العقل الاقصائي للمالكي والاسلاميين الشيعة.

نمط جديد من استجابة العقل السياسي الشيعي للفشل الديمقراطي، كان مؤثراً في انتخابات (2018) الذي خرج من البئر المالحة، بأن العملية السياسية لم تؤسس اطاراً واضحاً للقوى المتصارعة على السلطة، ولم تحقق شرطها الموضوعي بتخليق كيانات حزبية على نحو يضمن الاستقرار، بل شرعنت لفصائل مسلحة باطشة ان تكون جزءاً راسخاً من شراكة السلطة، لذا خسرت القوى التقليدية مقاعدها لصالح المسلحين، وباتت اللوائح والقوى التقليدية التي كانت تنجذب لبعضها انتخابياً بمستوى متدنٍ من الشعبية ومنقسة على نفسها مما افقدها زخم التماسك الطائفي الذي تعكزت عليه في التجارب الاسبق. فالتمايزات بتغير انماط التنافس على السلطة في الحقل الشيعي، هي انعكاس للطبيعة التطورية للتجربة العراقية التي تحكمت بها الشيعية السياسية، ويمكن اجمالها بأربعة مراحل اساسية:

  • المرحلة الاولى – تعزيز واستثمار المظلومية (2003 – 2006): ما بعد العودة من المنفى ومنح الشرعية لاحتلال متعدد الجنسيات، مقابل حيازة الحكم وتعزيز واستثمار المظلومية وترسيخ مبدأ التحاصص الطائفي والعرقي في ادارة الدولة.
  • المرحلة الثانية – التطهير والتمكين (2006 – 2014): تمكن فيها الشيعية السياسية من تسلم السلطة بشراكة سُنية قلقة وكردية انعزالية، وسط انقسامات دموية وتفعيلاً لاجتثاث البعث، وتطهيراً وتكسيراً لأية قوى يمكنها اضعاف السطوة الشيعية بما في ذلك التيار غير الفئوي لرئيس الوزراء الاسبق إياد علاوي (2010)، وصولاً الى لحظة تحطيم المعارضة السلمية السُنية (2013) التي افضت الى التمرد المسلح واختلاق تنظيم (الدولة الاسلامية)، وقيام السلاح الشيعي متعدد الولاءات قبالته (2014).
  • المرحلة الثالثة – التسلح وإعادة التموضع (2014 – 2018): تموضعت فيها الشيعية السياسية على ثلاث صور؛ مُسلحة (الحشد وواجهاته السياسية). ليبرالية وسطية مثلته قوى غازلت حالة الرفض الشعبي للنظام بتبني مقولات مؤسسية الدولة وحصر السلاح والذهاب الى شراكة لا محاصصة، فيما الصورة الثالثة، هي حالة الانفراد الشيعي المتمثلة بتيار مقتدى الصدر.
  • المرحلة الرابعة – الازاحة والمواجهة (2019 – 2021): واجهت فيها الشيعية السياسية الرفض الجمعي لسلطة الحكم، واشتداد الاحتجاجات القطاعية وصولاً الى اندلاع الانتفاضة العامة (تشرين)، واستثمار الصدريين للهبة الشعبية بازاحة الحشديين عبر تفكيك حكومتهم واقرار قانون الدوائر المتعددة، وصولاً الى تحطيم القاعدة التصويتية للمنافسين، وهو ما يمهد الى تنظيف المسرح لتمكين جماعة سياسية واحدة لتمثيل الشيعية مستقبلاً.

ما يُستخلص من تفكيك المراحل الأربع والنتيجة التي آلت اليها انتخابات 2021، ان 18 عاماً مضت لتثبيت ديمقراطية محروسة بالسلاح والفساد وتجارب انتخابية غير معبرة عن الارادة العمومية، كانت مجرد استثمار مربح لتطوير ادوات البقاء داخل السلطة وقياس القدرة على ازاحة المنافسين، وتنمية القدرات المستقبلية على تحطيم القوى لبعضها البعض وصولاً الى لحظة الانفراد بالسلطة واعادة تكوين نظام قامع جديد محروس ربما بقداسة شعبوية.  لكن ثمة تحديات مرعبة تواجه العراق تجعل من التنافس السياسي والسلاح الفصائلي والعشائري بلا قيمة، ازاء تغير مغذيات الاقتصاد مع التراجع المرتقب على النفط في السنوات العشر المقبلة، بظل مساعي خفض الاحترار العالمي، فضلاً عن أزمة المياه الضاربة مع نمو سكاني متسارع وفشل الخدمات، قبالة تهشم قدرات البلاد الاقتصادية باستمرار سياسة الاقتراض المدمرة لتمويل الموازنة العامة العاجزة عن تغطية نفقات الدولة وما يستنزف منها عبر الفساد وتنامي الاعتماد على الاستهلاك عبر المستوردات الخارجية، لذا فأن التفاؤل المفرط بأن حكومة أحادية الطيف قد تنقذ العراق من حكومات المحاصصة والهشاشة السياسية، مجرد ادعاء لبسط النفوذ، فالوضع بات مهيئاً اكثر من أي وقت ما على تفجر مشكلات اجتماعية – اقتصادية لن يستطيع أي سلاح من اخمادها.

أضف تعليق