السُلطةُ المُضادةُ في العراق: تفكيك المجال العام وتكْسير أدوات الحراك الاجتماعي

صفاء خلف

فَقَدَ الحراكُ الاجتماعي بصيغته الوطنية، مَجالهُ الحيويُ مَرَّتينْ؛ مرَّةً حين اختطف مُقتدى الصَّدر الاحتجاجات العمومية بكاملها لفرض مشروعهُ السِّياسي الإلغائي، وفَشِل. ومرَّةً حين وَظَّفَ “الإطار التنسيقي” كلاً من القضاء والسِّلاح لحيازة الإدارة الحكومية، ونجَح

نُشر على موقع جدلية في 26 نيسان/ ابريل 2025


لم تُفض الحركة الاجتماعية الاحتجاجية ضد السُلطةُ في العراق ضمن مسارها الكمْي على مدى خمسِ هباتٍ احتجاجيةٍ تأسيسيةٍ؛ انتفاضة البصرة الطلابية في آذار/ مارس 2005 ضد سُلطة الميليشيات الدينية، انتفاضة الحريات العامة 2011 المُتزامنةُ مع “الربيع العربي”، انتفاضة مُدن غرب العراق 2013 ضد سُلطة الانحياز الطائفي، انتفاضتي البصرة 2015 و 2018 المُمهتدان لانتفاضة تشرين الاول/ اكتوبر 2019، الى احداث تغييرات جوهرية او هيكلية في بُنية نظام موروث بقوة احتلال اجنبي مباشر وارادات تدخلية إقليمية ما بعد 2003، بقدر ما حَسَّنَت من ظروف الاستجابة الاستيعابية من قبل السُلطة للاحتجاجات والنشاط العمومي. إذ إنَّ المجال العام – طبقاً لفهم يورغن هابرماس – عبر دينامياته الحُرَّة والعفوية؛ بيْنما يُمتِّن قوة الحراك الاجتماعي، يعمل في الوقت نفسه على تفكيك ثقافة العنف، باتجاه تبديد سرْديات المراكز والقوى المُتحكمة والمتسلطين السِّياسيين، الذين يسعون وظيفياً وسياسياً الى استملاك الحيّز الاجتماعي وتأبيد “استراتيجيات الهيْمَنة” و”العُنف الرَّمزي” وفقاً لبيير بورديو، لاسيما ما يتعلق بـ”اعادة انتاج السُلطة”، وتَشْفير المجال الافتراضي (وسائل التواصل الرَّقمي)، بخطابٍ مغايرٍ للمطالبات العامة، بما يُحافَظ على علاقات الهيْمَنة والتراتبية والتَسلط.

إزاء الصعود التدريجي والجنيني لديناميات المُسائلة العمومية، صَمَّمَت قوى السُلطة استجابتها الاستيعابية، نحو تكْسير ادوات “الحراك الاجتماعي”، وتَدّجين الرَّفض الشعبي عبر سلسلة طويلة من المعالجات السُلطوية العُنفية التعسفية، وتوسعة زبائنية الفساد، وتمكين السِّلاح غير الشَّرعي، وصولاً الى التآمر على الارادة الانتخابية العمومية، وتقييد القُدرة السِّلمية على التغيير بمعاول شديدة التأثير من بينها المُعاقبة بالحرمان من الخدمات والتمويلات العامة، وقضم مساحة حُرية الرَّفض والتعبير تدريجياً، قُبالة تعزيز انتاج “الهلع الاخلاقي”و”التفاهة”، فضلاً عن اغلاق الفضاء العام بممارسات جائرة تنطوي بعضها على توظيف “التنمية” و”الازدهار الرَّيعي” ومتطلبات اقتصاد السوق، من اجل خنق التفكير الاجتماعي على انتاجِ حراكٍ جديد يؤدي الى تغيير النظام/ السُلطة/ هياكل الانتفاع غير المشروع من المال العام.

صُدمت الهياكل الاجتماعية ما بعد 2003، بالتشوهات العميقة التي أنتجتها عقود مريرة من تغييب المجال العام والمجتمع الأهلي المنظم عن وظيفة بناء الدَّولة والهوية الوطنية، إذْ سادت السِّياسات الهوياتية المُتمركزة حول الفئوية والطائفية (Identity Politics) خلال المرحلة الأولى من انهيار مفهوم الدَّولة (2003 – 2014)، وأَطَلَّت خطابات شديدة الكراهية والانقسام على مجتمعٍ مهزومٍ ومفكك، تَجَلَت مؤثراتها العُنفية على موجتين؛ الاولى: مواجهات الثأر الطائفي (2006 – 2007). الثانية: صعود الجَّماعات الخلاصية الدِّينية، تنظيم الدَّولة الإسلامية [داعش]، وقبالتها فصائل السِّلاح الشيعي المُضادة [الحشد الشعبي]، ما بعد حزيران/ يونيو 2014. يُمثل هذا الصعود، المرحلة الثانية من انهيار مفهوم الدَّولة، وبداية أوسع لابتزاز الحركة الاجتماعية السِّلمية بـ”البنادق”.

إزاء هذه التكتلات العُنفية، كان الأفق مُقفلاً أمام نشوء حركة اجتماعية خارج “تفكير الأزمة”، مع بُروز هويات فئوية أكثر تعقيداً انبثقت من حالة تنازعٍ طائفيٍ – عرقي مُزمنة. لكن؛ ثَّمةَ عاملٍ كامنٍ كان يتدحرج ويكبر يوماً تلو آخر بانتظار لحظة هدوء أمني، او فسحة خارج الاضطرابات العسكريتارية المعهودة، حتى تستعيد الهياكل الاجتماعية بعضاً من الزخم أثْرَ تراجع الخطاب الفئوي الديني، بدءاً من العام 2018 صعوداً وما بعده.

المطالبة بـ”الخدمات” الغائبة والتوزيع العادل للثروة، كان العامل الكامن الحاسم في تحريك وتفعيل قوة المطالبة الجماهيرية (Mass Society)، نحو صياغة هوية جديدة قائمة على الانحياز والاهتمام بالقضايا الوطنية المعيارية الكُبرى، تَمَثَلت مطالبها بـ: ازاحة نظام الطُغمة الكليبتوقراطية الفاسدة، انهاء البيئة السِّياسية المَسْمومة، تفكيك السِّلاح المفروض طائفياً لحُراسة النظام الذي يرتفع ما فوق مفهوم الدَّولة وقوتها، ليحميه من أي تغيير تقوده المطالبات العمومية والرفض السِّياسي من طرف المجتمع الحيّ والمجال العام. فيما تقترح المطالبة الجماهيرية، تأسيس سُلطة جديدة تُنهي عقدين من التنافس البشع والدموي على الثروة/ السُلطة مدعوماً بتدخلات خارجية وتبعية إقليمية ووصاية إيرانية. سُلطة جديدة كُلياً تمتثل للحوكمة والمراقبة والمحاسبة، وتحقق قدراً معقولاً وفعالاً من العدالة الاجتماعية وتوزيع الثروة، بما يؤدي الى تحقق شعار الهوية الوطنية المُتَشَكِل عبر المسار الاحتجاجي العام في تشرين الأول/ أكتوبر 2019: “نُريدُ وَطنْ”.

اهتز النظام الـ”ثيو-كلبتوقراطي” في العراق بشدَّة إثر انتفاضة البصرة صَيْف 2018، والاحتجاج العام في تشرين الأول/ أكتوبر 2019. لكن؛ بالمقابل، لم يُطلق النظام مراجعات عميقة باتجاه فهم مطالب الحراك الاجتماعي، او حتّى التفكير بتغيير نمط إنتاج السُلطة، بل تحايلت منظومة سُلطة الرؤوس المتعددة على الرغبة الشَّعبية بالتغيير، التي طالبت بصياغة عقد سياسي جديد قد يُفضي إلى قيام دولة مؤسساتية أكثر استقراراً وعدالة ومواطنية.

تم تجاهل المطالب العمومية عبر إنتاج السُلطة لنفسها مُجدداً على مرحلتين كاستجابة خبيثة للمسار الاحتجاجي العام في تشرين الأول/ أكتوبر 2019. الاولى؛ عبر تشكيل حكومة مؤقتة برئاسة مصطفى الكاظمي، قادت “الحراك المُضاد” – رُغم اعتبارها حكومة صديقة لقوى الاحتجاج -. والثانية؛ عبر عقدِ انتخابات مبكرة في تشرين الأول/ أكتوبر 2021، بعد تفكيك المجتمع وحراكه عبر “تنظيف السَّاحات”، ما قاد بنتيجته الى تشكيل “حكومة حماية مصالح” من طرف قوى اليَمين المُسلح القامعة للحركة الاجتماعية السِّلمية على مدى العقدين الماضيين. 

عَقِبَ أسابيعَ قليلةٍ من اندلاع الاحتجاج العام، تشرين الأول/ أكتوبر 2019، والتضحية بالقرابين الشبابية العظيمة، سَخَّرَت قوى السُلطة إمكاناتها لشراء ساحات ونُشطاء في بغداد والمحافظات المُنتفضة. بات لكلِ فصيلٍ سياسي أو مُسلح “جماعته الثورية” التي تَتَناطحُ مع المجموعات المناوئة، مُستهدفةً أي حراكٍ شبابيٍ حقيقيٍ، تُضعفهُ وتخترقهُ، تُكسِّر قوة الاحتجاج وتَحطُّ من سُمعته، وتوفرُ فَرشَةً معلوماتية لتفكيك النشطاء وتصفيتهم. بالمُحصلةِ، عمِلت الفصائل والجماعات جميعها على تكييف الاحتجاج، وإعادة السَّيطرة مُجدداً على السَّاحات، والتخلص من الأصوات التغييرية الراديكالية، لذا اشْتَدت حملاتُ الاغتيال والاختطاف وتصفية المجموعات النَّشِطة. وبصرفِ البحث عن القاتل، الجَّميع تخادمَ في تفكيك الحراك.

قِوى “محور واشنطن” استثمرت دعائياً انتهاكات قوى “محور السِّلاح” بقتل المُحتجين السِّلميين للحطِّ من الشَّعبية وتشويه السُّمعة “الجهادية” التي اكتسبتها خلال الحرب مع (داعش). بيّنما محور السِّلاح المدعوم ايرانياً، تخلص من عبء نشطاء مؤثرين لديهم القدرة على التأثير الانتخابي تحت طائلة التخوين والصِّلة بـ”محور واشنطن”. كلا المحورين اخضعا الشَّارع، وفككا قوة الحراك الاجتماعي عبر “تنظيف السَّاحات”.

لم يكن الاقتراع المُبكر في تشرين الأول/ أكتوبر 2021، ممراً لإحداث تغيير في الجسم السِّياسي من طرف قوى الرَّفض الاجتماعي والمُحتجين، بقدر ما كان مَخرجاً آمناً لقوى السُلطة بإعادة إنتاج نفسها مُجدداً. إذ أشَّرت المقاطعة الواسعة إلى تفاقم اليأس العام في ظل استمرار تغذية “العملية السياسية” من البئر المالحة ذاتها منذ 2003.

حالة الانقسام والتشظي في العراق، هي السِّمةُ البارزةُ التي تنبثق منها التناقضات المُتممةُ لعجز النظام السِّياسي. كل جماعة شَكَّلَت لنفسها خطاباً فئوياً تَتَحرك عبره داخلَ حقلٍ مُنعزلٍ عن الآخر. فحتَّى “احتجاجات تشرين”، هي لحظة انفجار شعبي انفعالية هائلة أيضاً، لكنها لم تُثمر سوى عن طاقةِ غضبٍ ويأسٍ تشتبك بلا برنامج مع حُزمة القوى المكونة للنظام، دون أن تتجاوزها إلى صياغة بديل يُسقط تلك القوى بما يمهد لنشوء ديمقراطية أكثر انفتاحاً من النسخة الانغلاقية الراكدة. لذا كان من السَّهل اصطياد الحركة الاجتماعية، وشَنِّ حراكاً مضاداً، بعدما استحوذت جماعات “الإطار التنسيقي” السِّياسية والمسلحة على السُلطة.

“العَجزُ” و”الرَّداءةُ” هما الفاعلان الرئيسيان اللَّذان يُنقذان النظام/ المجتمع/ قوى السُلطة دائماً من الانهيار الكامل في العراق. بهذه الصيغة يَستَتِبُ النظام في هدوء وشراسة، بيّنما يستمر التعايش الاجتماعي هشاً حول المكاسب دون تناحرٍ دام، ينطوي ضمناً على حراك معارض مطيع (Dutiful dissent). هذه الصيغة أخطرُ من الفوضى التي وِلِدَ منها النظام، واعتاش على تحولاتها وفَضَلاتِها لنحو عقدين، وقد تؤدي بتراكم “الرَّداءةِ” الى انهيارٍ، قدّ يَحدثُ فجأة وعلى نحو مُتسارع.

يُفسر إميل سيوران في كتابه [Histoire et utopie – تاريخ ويوتوبيا]، تغوّل المُتسلطين السِّياسيين على الحياة العامة والمجال الحيوي للحركات الاجتماعية، بأن المُتسلط السِّياسي، إنْ “لم تغوه الرَّغبة بأن يكون الأول، لنْ يفقه شيئاً من السَّياسة، ولن يَفهم شيئاً من إرادة إخضاع الآخرين لتحويلهم الى اشياء”، متوافقاً مع نظرة بورديو، بأن السُلطة تشترط الاعتراف بشرعيتها من قبل من تُمارس عليهم “الهيْمَنة”، بوصفهم الأدوات الحادَّة التي تُعيد انتاج الممارسات والتمثلات السُلطوية داخل السرْديات المُنتجة من قبل النظام على شكل “دعاية” أو “مُخبرٍ عام”، ضمن الأُطر  المُستحدثة لفرض “الضبط الاجتماعي”، أو دينامية “المُراقبة والعقاب”، كما فسّرها ميشيل فوكو. 

حين أطاحَ “الإطار التنسيقي” بالصَّدريين، عَقِبَ صراع ما بعد الاقتراع المُبكر في تشرين الأول/ أكتوبر 2021، كُشِفَ عن عمقِ الانقسام الشِّيعي – الشِّيعي، وهشاشة النُظم المُتحكمةُ بـ “العملية السِّياسية” العراقية المُرتكزة على محاصصة الدَّولة، والمساحات الاستعيابية العرقية والطائفية عبر الإبقاء على التوازنات التقليدية. لذا أعادت القوى ذاتها إنتاج نفسها مُجدداً. لم يُلتَفت إلى مطلب الحركة الاجتماعية الكمِّي والتراكمي بالتغيير ولا إلى نتاج الاقتراع. بل أصرَّت قوى النظام على تشكيل “حكومة حماية مصالح” فقط، لاغيةً الإرادة العامة للناخبين، ما أضافَ طبقةً جديدةً من خيبة أملٍ مُدمِّرة لثقة المُصوِّتين أو الجمهور العام المُقاطع والمتطلع الى تغيير جذري. وحتَّى تَكتَمل تطلعات النظام في تصفية أصول إدارة الدَّولة، انتهجت السُلطة الجديدة استملاك الدَّولة عبر “تأميم الحكومة“، بجعلها مُحتكرةً ضمن فضائها الاقصائي، وتسمية أضعف السِّياسيين (محمد شياع السوداني) كرئيس للوزراء، لتفادي صعود مفاجئ لمتسلطٍ سياسيٍ جديد قد يُفسد على النظام بُنيتهُ الصامدة. هذه اللَّحظة التي استمرت زُهاء عامٍ تقريباً، أَنْتَجَتْ مُتسلطيَّن سياسيين اثنيَّن من الخامة المُشوهة نفسها، التي تُكيل احتقاراً مُريعاً لإرادة الناس: “الإطار التنسيقي” و”مُقتدى الصَّدر”.

لحظة صعود السوداني، الذي يحتفي بعنوانه القبلي وامتداداته العشائرية تعويضاً عن ضعفه سياسياً، مَثَلَت ذُروة “عَجْزِ” النظام و”رَداءةِ” خياراته، بمقابل انسحاب الحركة الاجتماعية الاحتجاجية من المواجهة إثر مناورة مُقتدى الصَّدر بإزاحة قوى السُلطة عسكرياً. فَشلُ مُناورة الصَّدر المُسلَّحة، أثَّرت على نحوٍ بنيويٍ بالغ في ثقة الحركة الاجتماعية السِّلمية بقدرتها على صَدِّ ترتيبات النظام بإعادة إنتاج نفسه عبر تسمية “رئيس وزراء” من نفس الطَّاقم العاجزِ والرديءْ. لذا إنكفأ الحراك الاجتماعي، من صيغتهِ الوطنية الأوسع، الى حراكاتٍ مطلبية ومَصلحية صغيرة هامشية، مُجزأة ومُشتَّتة. لكنها؛ قدّ تلتئم وتَصْعَد الى المنطقة المطلبية الوطنية الكُبرى مُجدداً، بما يُشكل نواة الوجهة المُستقبلية نحو صياغة حركة اجتماعية جديدة أكثرُ نُضجاً من سابقاتها.

فَقَدَ الحراكُ الاجتماعي بصيغته الوطنية، مَجالهُ الحيويُ مَرَّتينْ؛ مرَّةً حين اختطف مُقتدى الصَّدر الاحتجاجات العمومية بكاملها لفرض مشروعهُ السِّياسي الالغائي، وفَشِلْ. ومرَّةً حين وَظَّفَ “الاطار التنسيقي” كلاً من القضاء والسِّلاح لحيازة الإدارة الحكومية، ونجَحْ. 

خَدَمَت حكومة مصطفى الكاظمي المؤقتة عبر هِراوة مُقتدى الصَّدر وشبيحتهُ “القبعات الزُرق“، مآل قوى السُلطة المدججة بالسِّلاح (الإطار التنسيقي) بتفكيك الحركة الاجتماعية وتفتيتها. إذْ ليس فقط سلاح الميليشيات الإيرانية من كان موجهاً ضد الحركة الاحتجاجية السِّلمية، بل ثَمةَ معاولَ إضافيةٍ من داخل جسم الحراك نفسه عَمِلَت بالإجهازِ على ما تبقى من قوة الرَّفض الاجتماعي. لَعِبَ الصَّدريون أدوارَ ابتزازٍ وتحايلٍ لحماية النظام المهترئ، بدءاً من مشروع “الإصلاح”، والتحالف مع الشيوعيين بالدعوةِ الى “الدَّولة المدنية”، ومن ثم الانخراط في الحركة التشرينية ودعمها، انتهاءً بالانقلاب عليها، والعودة إلى ضفاف المشروع الانعزالي بتأسيس “سُلطة صَّدرية” خالصة من أجل الانفراد بالسُلطة. بالنهاية أُقصي الصَّدريون.

بعد استعصاءٍ سياسيٍ دامَ عاماً (تشرين الأول/ أكتوبر 2021 – تشرين الأول/ أكتوبر 2022)، تَمَكنت قوى السُلطة اليمينية بنزوعها الاسلاموي العدائي للحركة الاجتماعية من احتكار الحُكم في العراق، وأسَّسَت لحوكمة كالفينية بتحويل “السُلطة إلى ربح”، عبر تشكيل ما اسمته بـ”حكومة الخدمات” المُحصَّنةُ بدرعٍ قداسوي – طائفي مُسلحٍ من طرف فَصائل عُنفيةٍ مُصنفةٍ كـ”مجاميع إرهابية” لارتكابها انتهاكات إنسانية واسعة في سورية والعراق؛ من بينها “عصائب اهل الحق”، “كتائب حزب الله”، “كتائب جُند الامام” ومنظمة بدر، مُعتبرةً التوافق على تسمية (محمد شياع السوداني) لإدارة الوزارة، جاء محروساً بتطويبٍ من الشَّخصية المُعتبرة لدى الجمهور الشِّيعي، فاطمة الزَّهراء، ابنةُ النَّبيُ مُحمد. وفقاً لتعبيرهم: الحكومة ولدت بـ”بركة انفاس الزهراء“، بمعنى توطين المُعتقد الجَّماعي للمقهورين داخل سياق وسرْدية “الهيْمَنة” التي ترتكبها السُلطة بما يخلق حتْميات سياسية مُتعالية، لا يستطيع الحراك الاجتماعي عزلها عن حقيقة، إن افراده ايضاً مُلزمين بـ”الهيْمَنة” العقدية الجَّماعية للايمان بنفس الموروثات الدِّينية لمُتسلطي النظام. 

تُؤشر محاولة الرَّبط بين المُتخيل الدِّيني الأيديولوجي الشِّيعي وبين عملية إجرائية سياسية دنيوية لتنظيم هيكل إدارة الدَّولة والمجتمع، على النزوع المُستمر لقوى السُلطة لحيازة الشَّرعية المفقودة عبر حوكمة طائفية تعزز إنتاج “الهلع الأخلاقي – Moral panic”، من أجل حماية أصول المُجتمع من التغيرات العاصفة غير المتوقعة التي يُنتجها الفضاءُ الحُر لحرية الرَّفض والتَّعبير، مثلما تُقوضُ في الآن نفسهِ، مكاسب الحركة الاجتماعية التي تسعى الى تحرير سُلطات الدَّولة من النزعة الدِّينية.

بالمقابل، باتت سُلطة “الإطار التنسيقي/ حكومة السوداني”، تُنتجُ كمّاً هائلاً من “التفاهة” و”الدعاية” عبر تمويلات غير خاضعة للرقابة من المال العام، لإغراق الفضاء الإلكتروني الاحتجاجي بسرْديةٍ ضدّيةٍ مُضللةٍ. بالتالي؛ أحدثت تغوّلاً على الحيّز العام. إذْ ينطوي غياب النقد الحُر او المؤسسي من قبل النشطاء الافراد/ المجتمع الأهلي المنظم/ المنظمات غير الحكومية، للديناميات السُلطوية، على تخلٍ صادمٍ للدور الرقابي للحركة الاجتماعية، وتسييلاً ومحواً لطبيعة “المجال العام” بوصفه مَصداً يمثل القوة الاجتماعية السِّلمية تجاه “حُزم السُلطَة” المُحتكرة للعنف والإفلات من المُحاسبة.

مع شيوع الفساد في هياكل الدَّولة/ الحكومة/ قوى السُلطة المتعددة الرؤوس، وتراجع قدرات الاقتصاد الوطني عن سد العجز الكبير في التمويلات العمومية، وسط تنامي البطالة، وبروز اعتلالات تنموية خطيرة بسبب الاعتماد على الاقتصاد الرَّيعي – النفطي الأحادي، والنهج الحكومي العشوائي بتوسعة اقتصاد السوق دون تخطيط، فضلاً عن المؤثرات الكارثية للتغير المناخي، وانكار مخاطر الملوثات الهيدروكربونية؛ كانت “الوصْفَةُ الناجحةُ” لسُلطة “الإطار التنسيقي/ حكومة السوداني”، هي تقييدُ المجال العام وتضليل الذاكرة الجَّمعية للحركة الاجتماعية، وشراء الرَّفض عبر تسويق “الاستقرار المُزيَّف”.

لابد من تعريف سُلطة “الإطار التنسيقي/ حكومة السوداني”، على انها سُلطة لـ”ترسيخ الفشل عبر الخدمات الفوضوية”، تكديس أكبر قدر من المشاريع في الذاكرة الجَّمعية عبر الدعاية، بينما القُدرة الوظيفية لتلك المشاريع والخدمات هشَّة ومهترئة، لكونها قائمة على هيكلٍ متداعٍ من بُنيةٍ تحتيةٍ مُنفلشةٍ، وسياسات اقتصادية مُشبعة بالانهزامية التي يُرسخها الرَّيع النفطي عبر ابتزاز الناس معاشياً مقابل استمرار النَّهب العام، ومُحاصصة السُلطة، والتعرض الى مزيدٍ من التلوث.

يعاني العراقيون تحت سُلطة “الإطار التنسيقي/ حكومة السوداني” من شيزوفرينيا الواقع المُتخيل. بمعنى، يُطحن المواطن في الماكنة اليومية لانهيار الخدمات، مَشاق التنقل، تغوّل الفساد المُستشري في الجسم الحكومي، تعدد أقطاب القرار الأمني والسياسي، الجَّفاف والتلوث، اليأس العام. بيّنما في الآن نفسه، ينغمسُ العراقيون بواقع آخر مُتخيل تُغذيه ماكنة الدعاية الضَّخمة لسُلطة الفشل/ قوى النظام/ سُلطة السوداني، في الفضاء الإلكتروني، كمنتج تُديره وتموله وتغرقهُ بمتونٍ هامشيةٍ ترفعُ من قيمة “سُلطة ترسيخ الفشل عبر الخدمات الفوضوية”، مقابل ملاحقة أي محتوىً مضادٍ أو معارضٍ، عبر أداة “مكافحة المحتوى الهابط” وإشاعة “الهلع الأخلاقي”.

الأداة المُبتكرة والعملانية، “مكافحة المحتوى الهابط”، التي أطلقها النظام في شباط/ فبراير 2023، حوَّلت المُجتمع الى “مُخبرٍ عام” يَشتغل لدى السُلطة التي تسعى الى تشكيك المجال العام والحركة الاجتماعية بقدراتهما على المساءلة والتحشيد، على اعتبار أن الاحتجاج بدءاً من العام 2015، كان نتاجاً لتلك القدرة التي تم تحطيمها عبر تخليق مسوخ تُنتج التفاهة اليومية. لكنها – اي المسوخ – تحوَّلت الى غيلان كشفت عن تفاهة السُلطة وطبقات الفساد الكامنة.

لذا تبرزُ اشكالية استبدال الفضاء المادي المفتوح بالفضاء الالكتروني المُتخيل. إذْ يشهدُ العراق وفقاً لهذه الدينامية استبدالات مُريعة عبر ثُنائية مركزية: الأولى؛ استبدال الفضاء الالكتروني الاحتجاجي بفضاء يُنتج التفاهة والمحتوى الدعائي المُضاد عبر توجيه المال العام الى المنفعة الاستبدادية لقوى السُلطة. الثانية: استبدال فضاء بغداد الجَّمالي والوظيفي المفتوح، بفضاء اسمنتي رهيب مُغلق أمام الحركة الاجتماعية المُقبلة.

“سلطة ترسيخ الفشل عبر الخدمات الفوضوية” التي يحتكرها “الإطار التنسيقي/ حكومة السوداني”، أطلقت حُزمة معالجات لتفكيك فضاء الاحتجاج الذي تستثمره الحركة الاجتماعية، ومن بينها “مشاريع شبكة الطرق المُجسَّرة” في بغداد، ما مَثَّلَ اعتداءً قمعياً على الفضاء الجَّمالي والوظيفي المفتوح للعاصمة. فلسفة العُمران في بغداد تقوم على أساس الفضاءات الحُرَّة المفتوحة، والهندسة الافقية المُنخفضة لمنح العاصمة امتداداً رؤيوياً يتسق مع الأفق دون عوائق.

فكرة السَّاحات العامة في بغداد، وهي فضاء الحركة الاجتماعية للاحتجاج ورفض السُلطة، قائمة ايضاً على هذا الاساس، فيما التأثيث الجمَّالي لتلك السَّاحات يوظف النُصُب والتماثيل العمودية النحيفة التي لا تأخذ حيزاً كبيراً في مجال الرؤية. من ناحية وظيفية مجاورة، السَّاحات العامة المفتوحة هي عقدٌ تفاعليةٌ تربط مناطق العاصمة ببعضها البعض، وصلاتٌ حرةٌ تؤشر على خصوصية الانتقال من مكان الى آخر، من عقدةٍ الى أخرى، دون عوائقَ اسمنتيةٍ ضخمةٍ ومانعة. تلك العُقدُ التفاعليةُ كانت ضروريةً للتعبير عن خصوصية عمران بغداد وفضائها الجَّمالي والاحتجاجي المفتوح، لكن مع شبكة الطرق المُجسَّرة، أجهزت سُلطة “الإطار التنسيقي/ حكومة السوداني” على فضاء العاصمة لغايات تخدم النظام السِّياسي ومشروعه الأمني بخنق حركة المجال العام.

قطَّعت الغاية الأمنية والسِّياسية للنظام أوصال العاصمة، وحَطَّمت العُقد التفاعلية – السَّاحات وقَتَلَتْها، بوصفها المساحة الحيوية للرَّفض. تَنَبهَ النظام السياسي الى المكانة الوظيفية التي تمتلكها السَّاحات العامة في اجندة الاحتجاج، وكيف يُمكن لتلك العُقد أن تتفاعل مع بعضها عبر خلق امتدادات احتجاجية ما بينها كبدائل عن السَّاحات التي يُغلقها النظام الأمني؛ ساحة التحرير/ حديقة الأمة هي المجال الاحتجاجي الاول، لكن مع محاصرتها وإغلاق المسارات المؤدية إليها، تفتح العاصمة فضاءات احتجاج بديلة. بالنتيجة، يفشل النظام الأمني/ السِّياسي بتفكيك قوة الاحتجاج، نظراً لأن فضاء بغداد المفتوح يُعد صديقاً ثورياً، يعزز زخم وحيوية كل انشطة المجال العام. 

بالنتيجة، خَسِرت بغداد الفضاء الجَّمالي المفتوح، واكتسبت نمطاً مُشوهاً وتعسفياً مارسهُ التعنيف الرَّمزي، بتحويلها الى عُلبة اسمنت لحل مُشكلة معيارية قائمة على فشل خيارات سُلطة ما بعد 2003. فالاختناقات المرورية زادت في قلب العاصمة أكثر من ذي قبل، لأن “شبكة الطرق المُجَسَّرة” تَحَوَّلت الى شبكة صرف مروري ومكبٍ كاربونيٍ ضخمٍ، في قلب مدينة تعاني ارتفاعاً مُفرطاً في الاحترار والضوضاء والهواء المُكرْبَنْ.

فكرة قَتل فضاء بغداد المفتوح، تمنح النظام “شرعية” فض الاحتجاج بحجة اعاقة التدفق المروري، شَلْ الاقتصاد وغلق الممتلكات العامة، بالتالي السَّيطرة على الحشود في شوارع ممتدة طويلة. خيارٌ مثاليٌ لحجب الاحتجاج عن بقية أجزاء المدينة وتطويقه.

تَستمدُ سُلطة “الإطار التنسيقي/ حكومة السوداني”، قتل الفضاء المادي للحركة الاجتماعية، من المخيال الاسمنتي لنظام عبد الفَتّاح السيسي الأمني في تفتيت فضاء القاهرة المفتوح. حَرَّرَ السيسي سُلطة الاسمنت عبر قتل عُقد القاهرة التفاعلية/ السَّاحات، ومحا الإرث المشترك للسكان المتنقلين في القاهرة الكبرى، بهدف اعاقة نمو اي مسار احتجاجي مستقبلي على شاكلة احتجاج يناير 2011.

ايضاً؛ واحدة من الالهاءات السياقية التي توظفها سُلطة “الإطار التنسيقي/ حكومة السوداني” لقمع المطالبات الخدمية للحركة الاجتماعية، فكرةٌ قائمةٌ على استثمار الأرض والفضاء المفتوح من أجل توسعة حقل الفساد والزبائنية. إذ لم تعد موارد الدَّولة الرَّيعية كافية لإشباع التنافس الشرس على المصالح. موارد النفط مُستنزفة تماماً عبر خطوط متنامية من الحصص المتوارثة او المُستدامة. الموارد الرَّيعية الاخرى موجهة نحو تمويل الزبائنية التقليدية. وبيّنما ينهشُ اقتصاد السوق ما تبقى من التمويلات العامة، تحوَّل البنكُ المركزيُ الى بائعِ عملاتٍ صَلَفٍ يرعى تهريب وغسل الأموال دون محاسبة. لذا بات من الاساسي، فتح سياقات تلاعبية لتمويل الزبائنية الجديدة بزعم “التنمية والازدهار الرَّيعي” بناءً على المتطلبات الحُرَّة لاقتصاد السوق.

خلق الفساد في العراق، اقتصاداً هائلاً موازياً ومُستداماً. عبر المال الرَّيعي المنهوب يتم تخليق أموالاً اكبر، لا يمكن استيعابها في الاقتصاد الرَّسمي. ومن المخاطرة ايضاً تسريب المال المتضخم عبر اقنية الاقتصاد غير الرَّسمي تجنباً لعقوبات دولية، لذا ابتكرت السُلطة، غلافاً مضللاً من اقتصاد منظور/ مرئي بأموال غير مرئية، عبر تمويل مشاريع الإسكان الجديدة، الطَّفرة الجديدة في البناء العمودي في قلب العاصمة وأطرافها، وهو ايضاً جزء من التَّنكر لفضاء بغداد الجَّمالي المفتوح. تمنح مشاريع الإسكان، المُلاك والمنتفعين قدرة هائلة ومرونة خارقة في اعادة تدوير المال المُتضخم من نهب الاقتصاد الرَّيعي وغسل الثروات، عبر مشروعات فك الاختناق السَّكني، التي غالباً ما تمتلكها جماعات سياسية نشطة داخل سُلطة الفشل، إما افراداً او جماعات او شركات او حلفاء غير محليين يُجلبون كواجهات برّاقة لسرقة المال العام والاراضي العامة.

فَوّرة المجمعات السَّكنية الجديدة، امتدادٌ للطبقة نفسها من زبائن المال الرَّيعي المُتضخم، ولا تَستهدف رفع رفاهية موظف حكومي او عاملٍ اجير، بل تستهدف تضليل طبقات الحركة الاجتماعية بزخمٍ من “الاستقرار المُزيَّف”، واحراج المطالبات الاحتجاجية عبر “تعبئة موارد بشرية ورمزية ومادية من أجل عرقلة التغيير الاجتماعي” وفقاً لتعريف تاي موتل (Tahi L. Mottl) لـ”الثورة المُضادة”. لذا المُدن الجديدة والمشاريع الاستثمارية، هي جُزر مصنوعة بعناية لضمان استدامة الفساد، وتغذية سُلطة الفشل بأطواق جديدة من المنتفعين الذين يحرسون النظام بحراب قاسية لتكسير الحركة الاجتماعية المحرومة، التي تنتفعُ من الدعاية وتَغرقُ بالبؤس.

أضف تعليق