الانتحار في العراق: مؤشر اليأس الجماعي


صفاء خلف 

نُشر لصالح موقع “جدلية” – 14 آذار/ مارس 2018

يقفز الانتحار في العراق الى السطح اليومي للأحداث كظاهرة. هو واحدة من علائم الانهيار الاجتماعي الآخذ بالتصاعد منذ ثلاثة عقود. وحتّماً؛ الانهيار نتيجة حُزّمة مخيفة من الحقائق المُتعلقة بتغيّر انماط التفكير والمعيشة والفساد والصراع على السلطة.

فالقوى الحاكمة في بغداد الآن وسابقاً، تقبض على السلطة بقوة الدجل السياسي والعلاقات الزبائنية الممدودة بين مركزية الدين الطائفي والسلاح الميليشياوي القاهر الذي يوفر الحماية للمرّعى الغني، بالتالي هذه السلطة التي تكافح لديمومة البقاء عبر السياسات التخديرية والدعائية واستغلال الفقر والامية والشعبوية والطائفية، تمارس هدّماً ممنهجاً للنسيج الاجتماعي العراقي، فهي لا تقدم سوى الوصفات الكارثية والمعالجات المُريعة المرتبطة بالفشل وسط اهمال المشكلات الاجتماعية المتفاقمة.

جذور غير بعيدة

برز الانتحار في العراق، كظاهرة متفشية ومخيفة في الثمانينيات الفائتة، حين كانت حرب الخليج الاولى (الحرب العراقية الايرانية 1980-1988) تستعر بنحو مليون جندي عراقي من الطبقتين الوسطى والفقيرة، وهرباً من الموت المتحقق في الجبهات، كان الشُبان المقاتلون يلجأون الى ايذاء انفسهم عمداً لاجل اعفائهم من القتال. كانت اعمال الايذاء الشخصي تلك عنيفة ومميتة، وغالباً ما تخلف عوقاً دائماً، وفي غالب الاحايين كان الجنود ينتحرون هرباً من الموت في المعارك الدامية. معادلة يأس اجتماعي تسحق بطاقتها القصوى الامل.

ابتكرت الحرب لنفسها نمطاً جديداً من التفكير العدمي الذي يؤدي الى الموت. وكأن الموت خارج الحرب هي حياة جديرة بان تمارس. ولا يعرف على وجه التحديد اعداد الجنود المنتحرين، لكنهم كثر. فيما الاسرى العراقيون كانوا يعتنقون الانتحار للخلاص من التعذيب الايراني في المعتقلات، ولندرة ادوات الانتحار هناك، كانت ثمة طريقة مفزعة بأن يُمرر الاسرى سلكاً غليظاً يُحمى بالنار في الصدغ، او الموت شنقاً بالملابس الرَّثة، او القاء انفسهم على المنحدرات الصخرية في حقول العمل الشاق، عوضاً عن الموت تحت التعذيب، والطريقة الاخيرة كان يموت فيها كثر من المواطنين المعارضين ايضاً في معتقلات النظام العراقي.

ازاء هذه فكرة – الموت هرباً من الموت – تبرز فكرة مضادة تخرج من نمط تفكير المجتمع المحافظ والقاسي ايضاً، ففكرة الانتحار غالباً ما ترتبط بـ”الضعف” و”المياعة” المرفوضة من مجتمع ذي خصال بدوية، فضلاً عن القراءة الدينية التي تعتقد بأن “الانتحار” هو اعتراض على القدر المقنن من قبل الاله وبالتالي فأن مصير “المنتحر” هو الخلود في جهنم، لكن ذلك لم يقف عائقاً امام انتحار رجل دين في اربيل برمي نفسه من بناية يسكنها. ورغم المسحة الدينية لدى العراقيين يظل خيار الانتحار واحداً من الطرائق المجيدة للاعتراض على الاقدار الخائبة التي وضعوا فيها.

اجتماعياً، لم يوضع الانتحار كمادة سائلة تتحرك ضمن انماط التفكير الشائعة، الا خلال التسعينيات بعد انفلاش صيغة المجتمع العراقي القديم، واختلاق مجتمع جديد بقيم غرائبية فرضها الشظف الاقتصادي وتغيّر نمط تفكير الدولة القابضة.

فعقب الهزيمة المدوية لأعتى الانظمة القومية في المنطقة خلال حرب الخليج الثانية (حرب الكويت/ آب 1990 – اذار 1991، ما تلاها من حرب اقتصادية دامت 13 عاماً)، تحوّل نظام (البعث – صدام) من منطقة الفهم العلماني المتطرف لادارة المجتمع، الى بديل خطر تمثل بالاسلمة المركزية تماشياً مع الصعود الشعبوي للدين بالتزامن مع انهيار التجارب  الاشتراكية التي اقتبستها الدول القومية بالمنطقة، وانفتاح الجبهة الافغانية الجهادية على دول المقاتلين حين عودتهم الى بلدانهم.

كان ذلك تغيراً غير مسبوق وانفلاشاً مريعاً للبنى المستقرة بمجتمعات مدجنة وريعية تدار عبر انظمة قامعة. وقبالة هذا التبدل السريع واجه المجتمع العراقي تشظياً هائلاً باستيعاب التبدل. فعلى مدى عقود كان الدين منفياً من خارطة الاهتمام. والافراد المتدينون يواجهون بعقوبات سياسية بوصفهم معارضين لنمط العقيدة العلمانية. فبعد ان كانت الدولة العراقية تحرض مواطنيها على الانفتاح، باتت تحرضهم بعنف على الانغلاق والتوجه الى الصيغ القديمة لتطبيق الشريعة. وشيئاً فشيئاً سرت العقيدة السياسية الجديدة مشفوعة بفكرة الهزيمة واللجوء الى “الله” لتبرير التجويع الدولي المريع.

وخلال التسعينيات عانى العراقيون جوعاً سافراً كشف عن سلوكيات اجتماعية صادمة من ضمنها “الانتحار”، لكن رغم ذلك ظلت المعدلات منخفضة لجهة ان حالة العوز كانت عامة، واسست عليها السلطة مفهوم “تشريك الفقر” كمعادل اضطراري لـ”اشتراكية الرفاهية” الذي ظل سارياً لعقدين منذ السبعينيات.

دخل المجتمع العراقي الى منطقة الهدم الممنهج لبناه المستقرة منذ العام 1980، وتصاعدت حُمى الانفلاش بالتساوق مع عسكرة “الدولة” و”المجتمع”، ومثالاً للقياس السطحي العام كانت الاغنية تمثل فرزاً واضحاً لفهم التغير الاجتماعي، بالانتقال من “اغنية التفاؤل” الى “اغنية الانكسار“، ومع نهاية الثمانينات، كانت الشعبوية السلوكية قد احتلت الصدارة.

سقوط الاستقرار

خلال التسعينيات، خرج المجتمع العراقي مهشماً ومهمشاً، فيما السلطة كانت مفروغة تماماً من قدرتها على معالجة التشوهات العميقة التي اصابت المجتمع، فلجأت الى تنمية الدين الطائفي ليكون مرهماً وثقب تنفيس للمرجل الاجتماعي الرافض، ومع نهاية العشرية التسعينية  السوداء، لم يبق من المجتمع العراقي سوى هيكل العلاقات الطيفية النفعية وهي تتصارع على حيازة البقاء.

كرس الجوع في العراق خيار “الانتحار” كمنقذ حتمي من العوز. فالمجتمع المحلي العراقي يُبنى على اساس الشجرة العائلية الممتدة. وظل الفهم البدوي/ العشائري لتشكيل العائلة هو النمط الغالب مع غياب القانون، وخلال الحرب مع ايران، كانت السلطة ترسخ نظرية الحرب الدائمة، واطلق النظام برنامجاً لتشجيع الانجاب بمعدلات مرتفعة رغم ادراكه للمشكلات الاقتصادية المتفاقمة والديون المتراكمة وفاتورة الحرب الباهضة. الا انه كان يدفع بالعراقيين الى زيادة التفريخ ليكونوا حطباً زهيداً لحروب مقبلة.

وتلاقت السلطة مع واحدة من ابشع الانماط الحياتية المقززة المتمثلة بـ”الانجاب” غير الممنهج. فالصبغة البدوية/ الريفية في العراق التي تعززها “القيم العشائرية” المرتبطة بقوة الفحولة وحيازة الارض والزراعة، اضافة الى التشجيع الديني المتوارث والمرتبط بفكرة الغلبة العددية لـ”الاسلام” قبالة تراجع معدلات انجاب الاديان الاخرى لتحقيق الهيمنة المستقبلية.

هذا الفهم افضى الى انفجارات سكانية في العراق. ومع حالة الشظف والجوع وانهيار الاقتصاد تكسرت الرغبة الاجتماعية بالحياة وبان خطأ السلطة والمجتمع معاً، وتداول الناس انواعاً بشعة من الانتحار الجماعي، كأن يقدم رب العائلة على قتل افراد اسرته خنقاً بالغاز او حرقاً او ذبحاً كرد فعل قاسٍ على الجوع وانعدام القدرة الاقتصادية وانسداد الافق.

استخدم النظام هذه الحوادث لتسويق “مظلوميته”. ولجأ عشرات المرات الى استعراض نعوش الاف الاطفال الذين ماتوا جراء سوء التغذية ونقص العلاجات والسرطانات المتفشية في المشافي الحكومية، بمواكب مؤلمة للتأثير السياسي على قرارات المجتمع الدولي. وفي الحقيقة كان النظام والمجتمع الدولي يمدان سكاكين طويلة تعمل يومياً على نحر العراقيين.

بالمحصلة فأن الانتحار في العراق تأسس نتيجة سوء ادارة الدولة للمجتمع. فالمجتمع العراقي في حقيقته، مجتمع مركزي/ بنيوي تديره الدولة او السلطة او النظام اياً كانت العقيدة او الفلسفة، فهو يخضع – أي المجتمع – الى التأثيرات المباشرة، ويتحرك ضمن الاطار الذي تحدده البُنى الحاكمة، واذا ما انعدم هذا الاطار يتحول الى مجموعة بشرية هشة تشتبك يومياً مع المؤثرات المحلية او الوافدة وتفرز صيغاً مريعة تعمل على استكمال الهدم.

نهاية الدولة: بداية الجماعة

باللحظة التي تمركزت فيها المجنزرات الاميركية والبريطانية في العراق بعد 2003، انتهت الدولة المركزية القابضة، وانفلش نمط المجتمع المُوَجَّهْ. وبرزت قبالة هذا الانفلاش انماط الجماعات المحلية بعقائدها الاجتماعية المندثرة. كانت الهوية الضاغطة للنظام هي السقف الحديدي الذي يكبس على المشكلات الاجتماعية.

وفي لحظة ما خلال التسعينيات سمحت السلطة بتنفيس المرجل قليلاً، فاندفعت الافكار الدينية الى المجتمع بصيغتين مؤثرتين نتيجة الظروف الجديدة: السلطة تسوق “الايمان السُني” بوصفه بديلاً عن تراجع القبضة الامنية والعقيدة السياسية في ظل انتشار “الصحوة الاسلامية” بالمنطقة، والعموم العراقي يدفع بـ”الايمان الشيعي” كصيغة مناكفة ومعارضة للنظام واستحواذ على المجتمع الفقير.

كلا الصيغتين كانتا نمطاً شعبوياً لمواجهة تهشم المجتمع. وعلى الشاشة الحكومية الوحيدة كان ائمة السلطة يدينون الانتحار ويغذون المجتمع بفكرة الموت من اجل “الوطن المؤمن”. فيما كان يُنمي الامام الشيعي الابرز آنذاك – محمد محمد صادق الصدر – فكرة الموت من اجل احياء الشريعة ولبس الاكفان. هذان الاعتقادان كانا غيمة عتيقة تسبح بسماء ملبدة بالغضب.

عقب هزيمة حرب الخليج الثانية، اندفع العموم الشيعي وجزءاً من العموم السني بانتفاضة ضد السلطة. ولعل ابرز الاهازيج المعارضة في (اذار 1990)، كانت تعبر تلك عن السماء وعن ذلك الغضب: “إحنا الغَيّمْنا أُوْ نُمْطِرّ نار إعّليْه”/ أي (نحن الذين صرنا غيماً ملبداً في السماء ونمطر ناراً على السلطة). بعدها قُمعت الانتفاضة بعنف همجي، وقبالة هزيمة السلطة بالحرب، هُزم المجتمع بتطيير السلطة.

على الشاشة الثانية (تلفزيون الشباب) المبتكرة لسلطة نجل الرئيس الاكبر (عُدي) التي اطلقها في العام 1992، تصادم الحقلان، الرئيس يدفع بالاسلمة المتطرفة ونجل الرئيس يدفع بـ”الانفتاح المتطرف”، وعقب اصابته بعوق أثَّرَ على قدراته الجنسية نتيجة محاولة اغتيال غامضة في بخريف 1996، اشتغل (عُدي) على بث صيغة هجينة من الاسلام الانتحاري بالجمع بين (الطرق الصوفية والسلفية الجهادية والشيعية المأتمية)، وبات تلفزيونه الخاص يبث موادً شديدة التحفيز على الكراهية وغاصّة بالموت المحتوم. فيما شن الرئيس ونجله حملات تفتيش دامية على مراكز المتعة الجنسية والمشروبات الروحية، بالتزامن مع برنامج محموم لبناء الجوامع والمساجد واستقدام أئمة متطرفين لادارة الوعي الديني الاجتماعي.

هذه الممارسات بالتأكيد مهدت الى غلبة الاسلام السياسي في العراق بعد العام 2003، وضخت دماءً متفائلة بتجربة حكم المهمش الديني لمجتمع متعدد القناعات الهوياتية والسلوكية، وبدلاً من أن يُجرب المهمش التاريخي صيغة حكم اكثر قبولاً بالآخر، اعتنق ذات البرنامج الالغائي لنظام (البعث – صدام) بفرض القيم الاحادية بوصفها خلاصة التحرر من الانتقام.

وعلى مدى 15 عاماً (2003 – 2018) من الفشل في ادارة الدولة والتجريب الخاطئ على الحقل العراقي المنفلش، كان المجتمع يتآكل ويفقد خواصه التاريخية ويتحول الى جماعات هجينة حائرة مهمومة بصناعة دفاعات عنيفة للبقاء، فكان العنف هو الالة المتوافرة لتحطيم الخصوم الشركاء. وفي تجربة نادرة تهشمت الطبقات الاجتماعية وحلّت محلها طبقات نفعية انتهازية طارئة، عززت طاقة التدمير الذاتي.

امتصت الخامة العراقية المهترئة عقب سقوط بغداد، كل التشوهات الاجتماعية والسياسية التي افرزتها التحولات الحادة منذ تأسيس الدولة العراقية (1921)، واعادت انتاجها بأفظع ما يمكن توصيفه من همجية بشرية وشعبوية، وبات التحكم بالمجتمع يمر عبر صراع الجماعات والمصالح المتناقضة ومغذيات سوء ادارة السلطة. انها تركيبة كارثية للتفوق الطائفي والمناطقي والعرقي. انتحار جماعي للعقد الاجتماعي والشراكة التاريخية. من مجتمع الدولة الواحدة الى جماعات الهويات الفرعية الصدئة وهي تنقب بالماضي لاختطاف المستقبل.

الجماعة تقضم الفرد

سكب الاحتلال ناراً اغريقية على بيدر القش العراقي، فسرى الجحيم يأكل البنى الاجتماعية بوصفها صناعة دولة مركزية. وعبر سنوات مريرة كان البيت المحلي يتداعى، وفكرة الانتقام تسري جنوناً مرعباً بين المكونات العراقية، وعلى مدى سنوات التمرد على النظام الجديد، وظفت كل التناقضات لهزيمة الاخر، والعنف كان الاله المقدس الذي يعبده التنافس على السلطة، وكما يصفها توماس هوبز: “حرب الجميع ضد الجميع”.

لم يكن الفرد العراقي يوماً فردانياً، دائما وما يزال يخضع لارادة الجماعة، ويتحرك عبرها لحيازة مصالحه، ما عدا سنوات قليلة نادرة حين هشّم نظام (البعث – صدام) خصيصة الجماعة/ العشيرة في السبعينيات وجزءاً من الثمانينيات لفرض سلطته واداتها القانون الصارم. لكنه تراجع مجدداً في التسعينيات واعاد انتاج الجماعة/ العشيرة عبر اطواق الولاء والبراء، للتحكم بالفرد الجائع والغاضب جراء سياساته.

السلطة كانت ومازالت وستظل في العراق، سلطة جماعات وعشائر، تفتقد عميقاً لروح بناء الدولة، وتعمل على هدم البُنى الدينامية لعزل العنف عن ادارة المجتمع. فحتى في لحظة “الانسجام الوطني” عقب سقوط الموصل (حزيران 2014 – تموز 2017)، استدعت السلطة المتعددة الرؤوس، الشعبوية الاجتماعية لحماية نفسها، ولأول مرة ايضاً تستدعى مباشرة العمامة الدينية لانقاذ مشروع الدولة الناشئة. لكنها ليست المرة الاولى باستدعاء كيانات مسلحة موازية.

جرّبت السلطات الحاكمة والسلطات الموازية لها على مدى عقود، تحرير العنف الاجتماعي عبر كيانات مسلحة موازية لاستنقاذ السلطة واضعاف الدولة المؤسساتية، فعقب انقلاب العسكر في العام 1958، عمل الشيوعيون حلفاء السلطة الشكليون على انشاء جماعات مسلحة برزت خلال تمرد عبد الوهاب الشواف في كركوك – الموصل (1959)، وشَكَلَ البعثيون عقب انقلاب شباط 1963 (الحرس القومي)، وفي العام 1970 شكل نظام (البعث – صدام) ميليشيا “الجيش الشعبي“، وفي التسعينيات شكل النظام ذاته ميليشيات موازية (فدائيو صدام – 1994) – (جيش القدس – 2000)، وعلى المقسم المعارض، كانت الاحزابات والكيانات تشكل جماعاتها المسلحة والتي لعبت دوراً مريعاً بعد سقوط سلطة صدام، كـ(فيلق بدر – 1982) و(كتائب الشهيد الصدر) و(البيشمركة كذراعين مسلحين لحزبي الاتحاد الوطني والديمقراطي الكردستاني)، وبعد 2003 تشكل “جيش المهدي”، ومن هذه التشكيلات فرّخت ميليشيات متعددة الولاء والهوية، استقرت اخيراً بـ”الحشد الشعبي“. والسلطة دائماً تستوعب الفقراء بتشكيلات السلاح.

فعالية الفقر في العراق لم تتوقف يوماً، وظل الماكنة النشطة جداً لانتاج العنف الاجتماعي، والمحفز المرعب لليأس الجماعي، والدافع المخزي الى الانتحار. لكن الان في العراق باتت دوافع الانتحار مرتبكة ومتنوعة. ولعل اغرب دافع يتمثل بانسداد الافق واليأس من تحقق التغيير.

سابقاً كانت مشكلات الدولة ومغامراتها الاقتصادية الفاشلة هي الدافع الاصيل. اما الان وبعد عقود، بات انهيار قيم المجتمع وانفلاش مقوماته وتراجع التجديد فيه هو الدافع الكارثي الذي يدفع بالمنتحرين الى هذا الخيار.

غرابة المصائر

اواخر كانون الاول/ ديسمبر 2017، حاولت فتاة الانتحار غرقاً بالقفز من جسر وسط بغداد، لم تعرف الدوافع الشخصية. لكن تكمن الغرابة بالحالة الكُلّية التي عكستها قصة الفتاة وما كشفته عن عفن اجتماعي يضرب عميقاً.

وفقاً لمحضر الشرطة، اُنقذت الفتاة من قبل صيّادٍ هاوٍ شاب كان قريباً بالصدفة من نقطة سقوط الفتاة. اتهمت الفتاة فيما بعد الشاب – وهو عاطل عن العمل – بسرقة مقتنيات ذهبية كانت بحوزتها حين الانتحار، وبالتعمق، توصل المحققون الى سائق سيارة الاجرة ووجهوا اليه تأنيباً لتقاعسه عن انقاذ الفتاة. برر السائق انه معاق وبرجل واحدة فقدها بانفجار قبل سنوات، ويعول نفسه وعائلته كسائق.

تؤشر الحادثة على العناصر المثالية لدوافع الانتحار في العراق: [العنف الاجتماعي (الفتاة)/ الفقر والبطالة (الشاب الصيّاد)/ مخلفات العنف السياسي (السائق المعاق)] والاطار الرابط لمثلث الانتحار، يتمثل بغياب التنمية والاستقرار الاجتماعي وفشل الدولة/ السلطة خدماتياً.

تنامت حوادث الانتحار على نحو مضطرد بعد العام 2003، وبالطبع فأن مؤشرات القياس الكَمّية غائبة، ومحاولات البحث النوعي في الدوافع والاسباب غائبة ايضاً، فيما الحكومات المتعاقبة منذ 2003 لم تضع ببرامجها معالجة ظاهرة الانتحار المتنامية، بل حتى مؤسساتها تتعمد التغاضي عن الاعتراف بذلك.

وفي احصائية يتيمة، أشّرت دراسة فقيرة اجراها مجلس النواب العراقي في العام 2014، على تصاعد الارقام من مستوى الاحاد الى المستوى العشري، مشيرة الى اعداد المنتحرين الموثقة لدى مجلس القضاء الاعلى بين (2003 – 2013) بلغ (1532 حالة) فيما الحالات الموثقة لدى وزارة الداخلية لنفس الفترة بلغت (906 حالات)، مبنية ان العام الذي قفز به الانتحار الى مستوى مخيف كان العام 2010.

وبالطبع فأن الدراسة النيابية لا تحمل السلطة الجديدة مسؤولية الفشل. فيما تتحامل على المنتحرين لـ”فقدانهم الوازع الديني”، متناسية بأن الحكام الجديد ينتمون الى ذات المنطق الديني الذي يُحرّم الانتحار، لكنه ايضاً يبرر للسلطة فعالياتها اللصوصية.

وفي دراسة كمّية جديدة مجاورة، اعدها مجموعة باحثين ضمن برنامج “الدراسة العراقية الوطنية عن الانتحار” بالتعاون مع وزارة الصحة، تَقَصّت قياس الظاهرة بين عامي (2015 – 2016)، استناداً على تقارير مراكز الشرطة التابعة لوزارة الداخلية في 13 محافظة عراقية (باستثناء محافظات كردستان ومحافظتي نينوى والانبار)، افادت بوقوع (290 حالة) في العام (2015) و(357 حالة) في العام (2016) بتفصيل جندري (55,9% ذكور) و(44,1% إناث)، مشيرة ان نسب الانتحار الاعلى كانت ببغداد والبصرة. لكن في احصاءات اخرى تتصدر ذي قار وديالى.

فيما تفيد الاحصاءات الرسمية لمفوضية حقوق الانسان في العراق، عن تسجيل (544 حالة) في العام 2014، و(607 حالات) في العام 2015، بينها حالات لغير العراقيين كانت للاجئات سوريات في إقليم كردستان.

الانتحار: ثقافة مقبولة

المنتحرون بالغالب ينتمون الى اوساط محافظة دينية وعشائرية، واعمارهم اقل من 30 عاماً، لكن المؤشر الاكثر فزعاً انتحار الشُبان الصغار من جيل العام (2000) الذين ولدوا ضمن الحقبة الاكثر ظلامية في العراق، وهولاء ضحية ثقافة مرتبكة ومزدوجة وهجينة، فهم الجيل الضائع، والخزان البشري العملاق دون استثمار سوى بدفعهم الى العنف وتجنيدهم في حروب الجماعات المسلحة سواء في سورية او العراق. وعبر تتبع الاخبار اليومية في العام 2017، كان اغلب المنتحرين من هذا الجيل، وكأن روحاً منطفئة جزعة احتلت اجسادهم النحيلة وهي تشنق او تغرق او تحرق او يطلق عليها الرصاص.

تعد مؤشرات الولادة في العراق هي الاعلى عالمياً بنسبة 3,5% سنوياً بواقع مليون ولادة، وازاء هذا الانفجار السكاني غير المسبوق، بظل تحطم الخدمات واستشراء الفساد، وشيوع الزبائنية الحزبية وتوظيف الخرافة الدينية، فان الافق بات مقفلاً امامهم، مع تحديات الطموح الشخصي بالخلاص من الانفاق العشائرية والشعبوية والتقاليد القاسية وثقافة الموت و”الاستشهاد” الذي يعاد انتاجه سنوياً ضمن طقوس الاحتفال الجنائزي بعاشوراء، ازاء الانفتاح الثقافي غير المسبوق الذي اسسه تنوع الميديا ووسائل التواصل الاجتماعي، وبأبسط المقارنات فأن هذا الجيل يجد نفسه محروماً بالمطلق من حق الحياة مع انهيار التعليم وتخلف التربية الاسرية وتفككها. ولعل دراسة International Crisis Group: “القتال أو الهرب: محنة ويأس “جيل الـ 2000” في العراق“، واحدة من ابرز التقارير الدولية التي كشفت المأساة العراقية.

ولأن طرائق تفكير الجيل الجديد الذي كَبُر دون رقيب بشوارب ثخانٍ، باتت مغايرة لجيل الاباء الذي تتلمذوا في مجتمع اكثر استقراراً، باتت ثقافة الانتحار اكثر مقبولية، والطريق السهل للتخلص من مرارة الواقع وقسوته.

 ودون التفكير بعيداً في الدوافع، لكن انسداد الافق والاحباط المريع وعدم استثمار الحيوية الشابة وتنمية المهارات والمواهب، والشعور الدائم بالنقص واستحالة تحقيق الامال، وسط المقارنات التي تعقد بين العالم المدهش الذي تسوقه الشاشات اليهم وبين واقعهم المنكسر وهو يعيشون في مدن يسفها التراب وتأكلها المياه الاسنة وتحكم قبضتها عليهم العمائم والعشائر والضغط المادي الرهيب مع نشوء طبقات ثراء رخيصة استهلاكية متخلفة، فضلاً عن عجز الدولة/ السلطة بمعالجة الفساد والخدمات وتصميم عالم قابل للحياة في بلد يعج باللافتات السود التي تنعى الشبان المنتحرين عمداً بذهابهم الى الجبهات المفتوحة للخلاص من التفكير العدمي الذي لا يؤدي سوى الى الموت نفسه.

ما زالت نسبة الفقر عند مستويات مخيفة: 22.5 في المئة على مستوى الوطني ككل، وقد تزيد في المحافظات الوسطى والجنوبية إثر توقف الموسم الزراعي الشتوي 2018 بسبب شح المياه وعودة المقاتلين من الجبهات ودخول خريجين جدد لسوق العمل. وهي تصل في المحافظات التي تأثرت بعمليات “داعش” إلى 41.2 في المئة.. مع بقاء العراق ضمن مستوى البلدان الاكثر فساداً، عند المرتبة 166 عالمياً. فيما تبدو المؤشرات الاقتصادية للعراق ضعيفة ومقلقة.

تتصدر محافظة ذي قار (جنوب العراق) نسبة الانتحار الاعلى، فيما معدل الانتحار الوطني يسجل يومياً ثلاث حالات انتحار على الاقل. وفي ديالى يرتفع المؤشر الى حد مخيف، حتى ان السلطات المحلية اعادت فتح التحقيق العام الماضي بعدد من الحالات للتأكد من صحة دعاوى الانتحار، فيما شكلت منظمات مبادرة لخفض معدلات الانتحار. انتحر 63 شخصاً في ديالى في العام (2017) اغلبهم من النساء، واعتبر مجلس المحافظة ان اعداد المنتحرين فاقت لاول مرة اعداد ضحايا العنف، وانه بات السبب الثالث في المحافظة. وخلال كانون الثاني/ يناير الماضي احرق تسعة منتحرين انفسهم.

فيما يقول مجلس القضاء الاعلى انه في العام 2016، سجّلت بغداد 38 حالة انتحار متصدرة جميع المحافظات، تلتها كربلاء بـ23، ثم ذي قار مسجلةً 22 حالة.

وتظل كردستان العراق، جزيرة غامضة ومعزولة، فثقافة الانتحار هناك اكثر شيوعاً من المدن العراقية الاخرى، وفاقمتها ازمة الحصار الاقتصادي الذي تفرضه سلطة بغداد عليها، لكن منذ سنوات طويلة كانت النساء تنتحر هناك بصمت اعتراضاً على الاعراف الاجتماعية. وتفاقم الوضع سوءاً بتزايد المنتحرات من المواطنات الايزيديات المسبيات على ايدي التنظيم الدموي “داعش”.

وازاء هذا الارتفاع المسبوق بمعدلات الانتحار الا ان خدمات الرعاية النفسية تكاد معدومة. وطبقاً لوزارة التخطيط فان عدد سكان العراق حتى منتصف العام الماضي بات يلامس 40 مليون نسمة. بينما عدد المشافي النفسية (وهي بالاصل اماكن احتجاز مرضى عقليين) في عموم البلاد، ثلاثة فقط، أي ان كل 12,5 مليون عراقي لهم مستشفى، قبالة 206 ستة اطباء نفسيين فقط، فيما تصنف منظمي اطباء بلا حدود والصحة العالمية العراق كـ”موطن للامراض النفسية“.

وغالباً ما يُصنف المجتمع الساذج في العراق، المكتئب، والمنتحر بانه “مريض نفسي”، ودلالة التوصيف معنية بالاحتقار والانتقاص والاستهزاء، وبسبب تلك النظرة ايضاً يُدفع الى الموت. لكن ثمة سبب مضاف ايضاً يتعلق بانتشار تعاطي المخدرات الرديئة كـ” crystal meth” الذي يدفع متعاطيه الى الانتحار بعد اشهر قليلة، وغالباً ما يكون المنتحرون من البصرة بينهم جنود ورجال شرطة كثر، لقربها من المصدر الاساس ايران.

 وللانتحار طرافته ايضاً، حين انقذ سم للفئران فاسد مخلوط بمواد غير سامة لزيادة ربح التاجر المستورِد، حياة فتاة حاولت الانتحار في كربلاء. وربما هي المرة الوحيدة، التي يكون فيها للفساد فضيلة انقاذ حياة مواطن في العراق.

أضف تعليق