أوهام “الوطنية” العراقية:

من عقيدة العسكر إلى سلاح “المقدس”


صفاء خلف

نشرت في مركز البيت الخليجي للدراسات والنشر في 11 تموز/ يوليو 2018

تشكلت الحالة الوطنية العراقية “الحديثة” على أساس الوطن “القومي” المُتشكل حديثاً ايضاً في العام 1921، واعلان “ملكية شبه دستورية” من طرف واحد رُسّمت بريطانياً بناءاً على التجسد الديموغرافي والتاريخي للمنطقة المعروفة بـ “العراق” بدعامة الحدود المفترضة للمناطق الواقعة تحت معادل التأثير “العراقي” الاجتماعي والحضاري الغابر، ومَثّلَ ذلك ترسيماً للحدود التاريخية للشعور النفسي بـ”الوطن” الذي ظل قلقاً ويتأرجح على خطوط تماس الانتماء الهوياتي والمناطقي والطائفي والعرقي، وفي بعض الآحايين الأيديولوجي.

فبعد انهيار الامبراطورية العثمانية، كانت الأرض فارغة من السلطة التي تمثل المعنى “الوطني”، وكانت الجماعات العرقية والمذهبية المحصورة في الجغرافية العراقية المُرسّمة حديثاً تنتمي لذات التيه التاريخي الذي يُحرك الحدود وفقاً لخرائط المصالح والتمدد، فيما الخريطة الاجتماعية كانت دوماً تنكفئ الى داخلها مُشكلة شعوراً عميقاً بالنفور من “الهوية الجامعة” ومستسلمة لـ”الهوية الفئوية” المريحة والمُهدَّدَة في الآن نفسه. هذه الهويات – العراقية – كتل بشرية تتحرك مع التاريخ وتتوقف عند عتبة التحديث، وتنكفئ مجدداً.

الدولة العراقية الحديثة لم تستثمر التنوع الاجتماعي المتداخل، وظلت تقف على أعتاب التصورات العثمانية الجامدة ذاتها – بوصفها التصورات الأحدث للمنطقة العراقية – التي كانت تستقطب الفئات على أساس “التقارب” المذهبي تارة والقومي – الاثني تارة أخرى، مع الحذر المضطرب من اية خطوات تنتزع ذلك الانكفاء الفئوي لصالح التشكل العام لهوية وطنية جامعة. وباتت هذه الوصفة دليلاً لدى كل السلطات اللاحقة، عبر انتخاب مكون معين ورفعه بوصفه “جمهور المواطنة” المعبر عن “الوطنية” استناداً الى تنزيه السلطة له، وتخوين المكونات الاخرى ضمناً.

“مواطنة” محروسة بالعسكر

قاومت الجماعات الفئوية محاولات الاحتواء الحكومية، ولاسيما في الجنوب والشمال العراقي بعد عقد من اعلان المملكة العراقية، واستخدمت السلطة “الجيش العراقي” لأول مرة، لقمع الطموحات الفئوية بشراسة، فتشكل ذاك القمع على انه العقيدة الراسخة لدى القوات المسلحة في الدفاع عن النظام السياسي الذي بات مفروضاً لتحقيق معادلة “الاستقرار” وتعريف معنى “الوطن” و”المواطنة”.

وبات فهم المؤسسة العسكرية المحدود في بناء دولة مواطنة قائم على انتماء طوعي يتشكل وفقاً للحقوق الدستورية والواجبات الوظيفية الاجتماعية، هي الاساس الوحيد في بناء “المواطنة العراقية” والمدافع عنها بالسطوة والقوة الآمرة، ومذ لحظة تشكل العسكرية العراقية كانت رديفاً لحماية السلطة التي تعبر قسراً عن “الوطنية”.

فالقوة الجوية العراقية التي تشكلت في 22 نيسان 1931 بدعم وخبرة بريطانية، شنت أول عملية لها بعد نحو 3 اشهر فقط من تشكلها، لاخماد تمرد عشائر شمال البصرة المعترضة على التجنيد الالزامي في 17 تموز/ يوليو 1931، فقصفت قرى الرحمانية الواقعة الان ضمن الحدود الادارية لقضاء “المْدَّيّنة”، لتتوجه بعدها في العام 1932 الى اخماد حركة “احمد بارزان” الانفصالية في المنطقة الكردية شمالاً، وفي آب/ اغسطس 1933 قمعت حركة المسيحيين الاثوريين (التياريين) بما اصبح يعرف بـ”مذبحة سميل”، وفي العام 1934 تعامل الجيش بشراسة مع انتفاضة عشائر الديوانية والرميثة جنوب غرب البلاد بأمر من الجنرال بكر صدقي الذي قام باول انقلاب عسكري في تاريخ المنطقة الحديث، فرسّخ بعنف ترابط “الوطنية” بمصير المؤسسة العسكرية.

هذه الفكرة المبسطة، تفضي الى محاولة فهم لما يمكن تسميته بـ”الوطنية العراقية”، وكيف ترَسّم مزاجها وصورها على مساحة نحو 100 عام، وكيف لعبت القوة والتفوق المناطقي دوراً في ابتكار صورة الانتماء الوطني على اساس “الهوية الجامعة” بوصفها مكبساً ضاغطاً لأي فهم هوياتي فرعي يعزز تلك الهوية الكُلية على الجغرافية المُرسّمة وفقاً لاتفاقية استعمارية “سايكس بيكو”.

ولعل فهم فيصل – الملك الاول – لطبيعة العراق الاثنية كرست مخاوفه بضرورة بناء “حالة وطنية” محروسة بقوة السلاح، وبات ذاك الفهم مهيمناً على عقلية الحاكمين بتغير ضروراتهم “الوطنية” وتشكلات سلطتهم وفقاً لاستقطاب الايديولوجيات المتصارعة في المنطقة. لكن بقي ظلّ فيصل بنحافته المفرطة وقامته الطويلة وملامحه المحفورة بقسوة الصحراء، حاضراً كموجه لأي سلطة تحاول اخضاع الخارطة الاثنية في العراق لسلطة “الحالة الوطنية” وهي في عمقها وحقيقتها مواطنة مُسيّسة مفروضة بقوة العسكر:

«بدأت بالجيش، لأنني أراه العمود الفقري لتكوين الامة، ولأنني اراه في الوقت الحاضر اضعف بكثير لعدده وعدته، من أن يقوم بالمهمة الملقاة على عاتقه، وهي حفظ الامن والاطمئنان إلى امكانية كفاءته، نظراً إلى ما تتطلبه المملكة، ونظراً إلى العوامل المختلفة الموجودة، التي يجب أن تجعلنا دائماً متيقظين لوقوع حوادث عصيان مسلح في كل وقت. انني لا أطلب من الجيش أن يقوم بحفظ الأمن الخارجي في الوقت الحاضر، الذي سوف نتطلبه بعد اعلان الخدمة العامة، أما ما سأطلبه منه الآن، فهو أن يكون مستعداً لاخماد ثورتين تقعان (لا سمح الله) في آن، في منطقتين بعيدتين عن بعضهما». – مقتبس من رسالة الملك فيصل قبل وفاته (1933) وفقاً لمذكرات علي جودت الايوبي (1968) -.

مواطنة السلطة

تكمن خطورة “الوطنية العراقية” بانها “وطنية سلطة”، وتعبير السلطة لا يشير الى السلطة السياسية الحاكمة فقط، بل الى القوى النافذة في المجتمع وتدير القوى الكامنة فيه، لذا فهي وفقاً لهذا التوصيف بالضرورة هي “وطنية مكارثية” تؤشر دائماً على تخوين الاخر غير المنسجم مع السلطة او التيار الاجتماعي او الديني العام او فهم المؤسسة العسكرية – ولربما هذه الحالة تسيح على مجمل المنطقة العربية – الشرق اوسطية – ونتيجة الفهم المغلوط لـ”الوطنية” فأن عملية تحديث وتنمية مجتمع متنوع باتت مفقودة وطمرتها طبقات ارتكاسية من الفصام الاجتماعي ومقاربات حادة على اساس توظيف المواقف السياسية لتبرير افعال السلطة ضد معارضيها، وبات هذا التوظيف معتاداً ومكرساً حتى اللحظة السياسية القائمة الان في العراق.

وبالعودة الى فكرة بناء “الوطنية العراقية” كمحمية تحرس بالسلاح والفوهات، تهشمت الصورة الوجدانية لمعنى “المواطنة” بعدما تكسر “الوطن” وبات خصماً للمواطن الذي اضطر الى تفعيل مواطنته القسرية وفقاً لمزاج السلطة، لا وفقاً للانتماء الواعي الى فكرة الارض والارتباط بها وبما تمثله من محمولات ثقافية واجتماعية، وهو ما يُمكن وصفه بـ”المواطنة المُسيّسة” او “مواطنة السلطة”.

جرّب العراقيون الانبهار السطحي بنماذج “المواطنة” في المنطقة، ودائماً ما ينكفئون الى اعتبار تلك “المواطنات” من صنع انظمة “رشيدة وعاقلة”، معتبرين أن الانظمة التي حكمتهم تسببت بانفلاش المواطنة نتيجة سقوط الحقوق من شجرة الاستحقاق. لكن هذا الانبهار، هو أيضاً نتيجة عرضية لمرض متفش بكامل المنطقة، وعراقياً له صلة وثيقة بفكرة الانتظار وظهور المخلص وما يستتبع ذلك من غيبيات متعلقة بالتفسيرات الدينية لفكرة “العذاب العراقي”.

غالباً ما انبهر العراقيون عبر الدعاية الكثيفة التي حرصت الدولة المصرية على تسويقها الى المنطقة العربية عبر الدراما والسينما، وتظهير “المصري” كمواطن “وطني” صارم يعتنق مواطنته بوصفها جزءاً من تشكله الفطري، فاخضع العراقيون تلك “المواطنة الدرامية” الى منطق المقارنة مع مواطنتهم المسلوبة او المعلبة بمواقف السلطة.

في الحقيقة ان ذاك الانبهار هو محاولة خاطئة، فالدفع الدعائي يؤدي ايضاً الى خلق معادلة كارثية تستهدف تهشيم مفهوم “المواطنة الحرة” قبالة تصعيد “المواطنة المشروطة”.

وعلى مقسم آخر، انبهر العراقيون أيضاَ بالنموذج الخليجي لدولة الرفاه النفطي، وقارنوها مع دولتهم الفاشية التي تحول الثروة الهائلة الى محارق رعناء. و”المواطنة الخليجية” ايضاً فاقدة لمعناها العميق، وفي حقيقتها “مواطنة زبائنية” منخورة وساذجة وقائمة على “الولاء القبائلي” والخدمات التي تؤمنها الوفرة المالية، لذا فأن المواطنة المنشودة لدى العراقيين في حقيقتها هي سلسلة طويلة ومعقدة من الاجراءات والخدمات المفقودة والاستقرار الضائع والتيه الاجتماعي.

قبل العام 1921 لم يشهد العراق فكرة وطنية جامعة واعية لفكرة الحدود والجغرافية والتمثيل السياسي والنهضة الاجتماعية، بل كانت ارتدادات تمزق المملكة العثمانية تنتقل الى الولايات الثلاث (الموصل/ بغداد/ البصرة)، ونتيجة ما اصطلح عليه لاحقاً بـ”النهضة العربية” وتشكل المجموعات السياسية الاولى المتأثرة بتجربة جماعة “حزب الاتحاد والترقي” التركية وثورة 1919 المصرية، وعودة العرب العثمانيون الى بلدانهم الام، وبدء التحرك البريطاني لاقناع العرب بـ”الثورة” ضد المحتل العثماني تمهيداً لتدخل انكليزي واسع. وعبر التشريح التاريخي نؤشر على ان ذلك الشعور “المواطني الفتي” الذي وظف كواجهة اخلاقية للانقلاب على العثمانيين، هو ايضاً وصفة انكليزية مختلقة سرعان ما انهارت بتحول البريطانيين الى غزاة كبديل عن السلطة العثمانية المنحسرة.

فحين احتلت بريطانيا العراق رسمياً بدءاً من العام 1914 حتى بسطها كامل السيطرة في العام 1917، لم تتحرك الجماعات العراقية الفتية في اطار فهم وطني عراقي، بل تحركت باطار فهم قومي مهيمن على المنطقة، واعتبرت أن العراق هو جزء من المطالبة الحالمة لتشكيل “الوطن القومي العربي” ودعامة أساسية له، ففصلت تلك الجماعات نفسها عن بناء “وطنية عراقية” وراحت تبحث عن مواطنة قومية لا يمكن تحققها، واثبتت التجارب المخبرية/ البوليسية/ العسكريتارية التي طبقت فيما بعد لانعاش “الوطن القومي” فشلها الذريع، وانكفاء السلطات القومية الى سلطات محلية فئوية قامعة.

لم يتشكل في العراق مفهوم حقيقي لـ”الوطنية” و”المواطنة” بعد نحو 100 عام من تشكل الصيغة المقترحة للدولة العراقية الحديثة، وظلت الوطنية العراقية تتفكك وتتشكل وفقاً لفهم كل سلطة جديدة تزيح القديمة، وتبنى على ركامها وطنية جديدة قائمة على العداء لما قبلها.

فالوطنية العراقية لم تتمتع بحالة من التواصل والاستمرارية والنقاش السلمي، بل ظلت حالة مشوشة ومرتبكة وفصامية، تخضع لتحولات السلطة والقوى الصاعدة معها والتأثيرات الاقليمية والدولية. فلم تكن هناك حالة وطنية نابعة من القناعة الداخلية، وعملت الظاهرة الحزبية على زيادة تدهور الشعور بالانقسام، فالحزبية العراقية، حالة عدائية واستفزازية، وتطعن الاستقرار المجتمعي الذي يتطلبه بناء الوطنية.

وبات الانقسام والفئوية هما المعبران عن تشخيص “الوطنية”، فالسلطات الحاكمة كانت تتنقل بين حوادث سياسية وتخرجها على انها الجذر الذي يجب ان يكون هيكل الوطنية العراقية، فاعتبرت في عهود السلطات القومية، “ثورة العشرين” و”حركة مايس العسكرية 1941″، الجزء الاساس المكون لادبيات الوطنية العراقية الصاعدة.

وعقب قيام “الجمهورية” عقب الانقلاب العسكري في 1958، تشكلت الوطنية بوصفها انتصاراً لقيم اسقاط الملكية والاقطاع وارث التدخل الانكليزي، ودعم تشكل الجمهورية “المنصفة” لحقوق الفقراء والمهمشين والطبقات الاجتماعية الدُنيا، وازاحة الاحزاب البرجوازية والارستقراطية التي كانت تدعم التاج العراقي، وتشارك بالعمل السياسي والمجالس النيابية والتمثيلية وحكومات العرش التي كانت تتهاوى.

لكن بالمقابل فشلت الجمهورية ايضاً ببناء وطنية عراقية راسخة، واسست لوطنية انفعالية تتشكل وفقاً للمتغيرات السياسية وتأثيرات السلطة على العامة، فضلاً عن الاقصاء والتخوين والعنف السياسي، والصراع المرير بين الشيوعية والقومية وبروز الاسلام السياسي بدءاً من الستينيات، وفي قلب هذا الصراع، كانت الانتماءات الفئوية والطائفية والمناطقية تتصادم بقوة اكبر، وتصنع انقسامات شديدة الخطورة بانت تأثيراتها الكارثية في تجربة السلطة ما بعد 2003.

فخلال الستينيات، تشكلت حالات وطنية متنافرة، فهناك الوطنية الحزبية التي كانت فيها “الوطنية” تمثل الانتماء الى الحزب وحده والايمان بمقولاته فقط، كتجربة الحزبين الثأريين الحزب الشيوعي العراقي وحزب البعث العربي الاشتراكي، وعقب تأسيس حزب الدعوة الاسلامية (الشيعية السياسية) والحزب الاسلامي العراقي (السُنية السياسية – الاخوان المسلمون)، باتت الوطنية تأخذ بعداً اكثر انقساماً وتشتيتاً، بوضع الانتماء للدين وفكرة بناء “الدولة الاسلامية” كطريق الى “بناء الانسان” وفقاً التأثيرات المتطرفة لسيد قطب حينها وتنظيرات الاحتجاجات الايرانية ضد سلطة الشاه، والتي ستظهر في تجربة ما بعد 2003.

صعود البعث الى السلطة، وتحولاته من حزب قومي وحدوي الى حزب سلطوي فئوي يمجد حكم الفرد، باتت الوطنية لأول مرة مرتبطة بشخص الحاكم وحده، بعدما ما كانت مدمجة بالكيان السياسي الهش للسلطة بوصفها “الدولة”.

فبعد وصول البعث المناطقي الى السلطة، والصراع بين اجنحة العمومة والقرية، وانتصار جناح القوة المفرطة ممثلاً بصدام حسين، كانت الوطنية العراقية قد تهشمت تماماً وتكسرت وهي لم تزل في حالتها الجنينية الاولى التي لازمتها منذ العام 1921، ولم ترق لان تكون وطنية ناضجة مبنية على اسس المواطنة في دولة مؤسساتية.

فجّر اندلاع الحرب العراقية – الايرانية الطويلة، حالتين “وطنيتين” جديدتين ازاحتا النسخ “الوطنية” السابقة مرحلياً وحلّت محلهما، الاولى: الحالة “الوطنية” المعبرة عن السلطة، والثانية الموازية لها: الحالة “الوطنية” المعبرة عن المعارضة المشتتة الى اجندات في المنفى.

اشتغلت الحالة الاولى على مصدرين للتعبير، الاول: رأس السلطة يمثل “الوطن” بوصفه ضرورة تاريخية مقدسة، الثاني: الحرب بوصفها حالة التحفيز المستمرة ازاء الخطر الوجودي للقضاء على “السلطة الوطنية” التي تمثل الكيان العراقي!

فيما الحالة الثانية، فكانت تستخدم وصفات متقلبة على حسب درجة الولاء للنظام المضيف لها او الممول لانشطتها.

وبالطبع، الماكنة النشطة لافراغ المجتمع والدولة والسلطة من المعارضين والقوى المنافسة، واخضاع كل الكيان العراقي الى منطق الفردانية والانفراد والاحتكار، اوجد مجتمعاً هشاً غير منسجم ومفكك، يظهر متماسكاً تحت سلطة الهوية الضاغطة، لكنه كان على درجة مريعة من الهشاشة التي تفجرت تجلياتها في انتفاضة اذار/ مارس 1991، وبان التشوه العميق الذي اصاب المجتمع العراقي ووطنيته ومواطنته، والعودة مجدداً الى وصفة “فيصل الاول” باستقدام القوة العسكرية الغاشمة لتكون علاجاً كارثياً لانفلاش الدولة/ السلطة/ المجتمع.

القمع كان اشبه بزراعة سرطانات بجسد منهك معدوم المناعة، فزادت من التفكك واعادت المجتمع الى انتماءاته الفئوية والمناطقية قبل مرحلة تأسيس الدولة الحديثة (1921)، ورسمت الحواجز النفسية والامنية وبات الانتقال الفرد من منطقة الى اخرى خارج جغرافيته الفئوية، مغامرة رهيبة وسط تنامي العزل الاجتماعي/ الطائفي/ العنصري/ السياسي. ومارست السلطة اقسى ممارساتها في تفكيك الوطنية العراقية المريضة، عبر اطلاقها برنامجاً ممنهجاً لنزع الوطنية من مكونات عراقية وتخوينها ومنح “شرف الوطنية” لمكونات اخرى، لجهة الولاء لرأس السلطة ومدى وثوقه بها.

مثلاً، عقب انتفاضة آذار/ مارس 1991، قامت السلطة بنشر 7 حلقات مطولة جداً في جريدة الحزب الرسمية (جريدة الثورة) للفترة بين (3– 14 نيسان/ ابريل 1991) تحت عنوان مطول ايضاَ (ماذا حصل اواخر العام 1990 وهذه الاشهر من العام 1991.. ولماذا حصل الذي حصل؟) ويعتقد انها كتبت من قبل صدام حسين او طارق عزيز، ثم اجريت عليها تعديلات صحافية ومراجعات من قبل المستشارين والكتاب الصحافيين التابعين الى ديوان الرئاسة، ووفقاً لغسان العطية فان “هذه المقالات لها اهمية خاصة في معرفة طريقة تفكير النظام وخاصة رأس النظام”.

حاولت السلطة من نشر تلك السلسلة الفقيرة والساذجة في مقاربة الانهيار، تعويم فكرة سقوط تجربة النظام، وتبرير انتفاضة 1991، بكونها نتاج ارث هائل من السلوكيات المشوهة والعقائد المغلوطة والانكفاء الى الشعبوية الاجتماعية ونقص “الانتماء الوطني” والتشكيك بهوية السكان العراقيين في الجنوب والشمال والطعن باصولهم الاجتماعية و”فساد اخلاقهم”، وبعيداً عن الافكار السطحية الساذجة والتبريرات غير العلمية المفتقرة الى المصداقية والدقة والتحليل الموضوعي لتلك المقالات، كانت اللغة التي كتبت بها، مخيفة ومرعبة، وكيف انها اختلقت تاريخاً مزوراً ازاحت به السلوكيات السلطوية جانباً، وحمّلت المسؤولية على العراقيين وانعدام “الوفاء” لديهم.

بمرحلة التسعينات، انفجرت كل تناقضات “الوطنية العراقية” المشوهة، وتحقق شرطها الاكيد بعدم تحققها يوماً، وانها ظلت أمنية عائمة على سطح خشن من الحراب الدامية التي تطعن تماسك المجتمع العراقي وتسببت بتفككه وتهاويه وصولاً الى لحظة الاقتتال الداخلي ما بعد 2003، وما مارسته سلطة الاحتلال والنظام السياسي اللاحق وتنافسه على حيازة السلطة دون الاستجابة للوضع الكارثي الذي يهدد لاول مرة وحدة الكيان العراقي كجغرافية ومكونات، وانفلاش العقد الاجتماعي بشكل نهائي.

وبدءاً من التسعينيات، عاد المجتمع مجدداً الى المنابع الاصلية لفكرة “المواطنة” و”الدولة”، وباتت السلطة تعزز تلك المنابع بقوة لتسهم بالتفكيك الكارثي للحفاظ على نفسها من الانهيار او مواجهة انتفاضة جديدة، ومثلما سعت الى تفكيك “العشائرية” و”الطائفية”، عادت مجدداً الى تفعيلها لخلق اطواق من الموالاة حول السلطة، فاندفع المجتمع قبالة ضعف السلطة واهتراء الدولة القابضة، للبحث عن مواطنات جزئية يعزز فيها حمايته الذاتية، فظهرت “مواطنة عشائرية” و”مواطنة طائفية مذهبية” و”مواطنة نفعية”، وظل عموم من العراقيين الذين يمثلون بقايا الطبقة الوسطى الآفلة بلا هوية محددة منقسمين بين تلك “المواطنات” وذائبين فيها، الى الحد الذي اختفت فيه ملامح مجتمع موحد.

وطنية مفككة جديدة

هذه الانقسامات المريعة في جسد “المواطنة” العراقية، افرزت تمثلاً جديداً وفهماً غريباً لمقاربة احداث ما بعد 2003، فحالة الخلاص من نظام صدام حسين وادوار العنف والاضطهاد التي مارسها، شكلت ضداً نوعياً كارثياً جديداً، فسقوط الدولة المستقلة بغزو اجنبي متعدد الجنسيات للاطاحة بنظام الحكم، كان مشابهاً كمقاربة سياقية لحالة تقبل فكرة الغزو البريطاني في العام 1914 لازاحة السلطة العثمانية، وتأسيس نظام حكم عراقي، وتحت هذا الاطار تقبل المجتمع المهزوم نتيجة ممارسات السلطة المنهارة، الغزو على انه يأتي ضمن فكرة “الخلاص” من “العذاب العراقي”، واعتبار ان “الوطنية” الجديدة هي تنحصر فقط في معاداة واجتثاث البعث من العراق، وتتجلى باعادة احياء الممارسة الدينية المقموعة ولاسيما لدى الشيعة.

استحضر الشيعة العراقيون ذكرى تصفية النظام المُباد للزعيم الروحي لحزب الدعوة الاسلامية اية الله العظمى محمد باقر الصدر (8 نيسان 1980)، الذي تحوّل الى التاسع من نيسان ليتوافق مع المخيال السياسي للسلطة “الوطنية” الجديدة، وان الكارثة التي حلّت بالنظام المخيف، ما هي الا واحدة من علامات اشتغال المقدس بعد غيبوبته القسرية، وان القوة الرهيبة لفاعلية العداء ضد التشيع باتت معكوسة بحكم “انتصار الدم على السيّف”، لكن هذا الخلاص “الاميركي” للتاريخ الشيعي، يوافق ايضاً ضمن التاريخ الخاص بالطائفة، ذكرى اغتيال الامام الحسن بن علي (7 صفر 1424 هـ/ 9 نيسان 2003)، لكن الجماعة الشيعية السياسية اغفلت عمداً تزامن اغتيال الحسن واستحضرت فقط تصفية الصدر -، فاستظهرت اولى الشعارات السياسية بطريقة غير مباشرة فكرة “انتقام التاريخ” والتأثير القداسوي في الاقتصاص. وبطريقة ما كان التاريخ الغيبي يُحرك الشيعة بأن معاداة أي سلطة للسلالة المقدسة، سينعكس عليها “انتقاماً”.

وكسياقية مضافة، لفكرة “الوطنية المتديّنة” او “الوطنية المؤمنة” التي ابتدعها كلاً من صدام حسين والمرجع الشيعي محمد محمد الصدر (اغتيل في 19 شباط/ فبراير 1999) في اوائل واواسط التسعينات، انفلش المجتمع مجدداً بضراوة، وبات التعبير عن الوطنية متربطاً باستحضار المقدس والنصوص الحاثة على “طاعة السلطة” او الخروج عليها كلاً بتفسيره وتوظيفه السياسي، ورُحلت هذه الحالة الى ما بعد 2003، بوصفها الفلسفة الجديدة التي سيقوم على اساسها النظام ومعارضته في آن واحد. فالسلطة باتت تستقدم نصوص انتصار المهمشين، والمتمردين يستحضرون نصوص الانتقام. وباتت تلك الانتقالات الحادة هي المعبر “الوطني” الجديد في عراق ما بعد الدولة القابضة.

وطنية الارتكاس

يشهد العراق اليوم، حالة من “الوطنية” الانفعالية الطارئة، ليس لها مقومات سوى نزعة انتماء لما هو اقل من وطن واكبر من عشيرة، وهي مرتبطة بالحدث الآني الذي يحرك العواطف الطائفية او المناطقية او الاثنية ويحوّلها الى منطق للتصادم الاجتماعي، وبالتالي فأن هذه “الوطنية” هي حالة سائلة، تتحرك من جبهة الى نقيضها بذات الدرجة من الانفعال، وتمارس تبريراتها للاحداث وفقاً لحرارة المصلحة، بمقاربات مفزعة تتجاوز أي مفهوم عاقل لفكرة المواطنة والوطن والعقد الاجتماعي المرسوم في اطار الدولة الجامعة.

لذا فأن هذه الحالة، تفضي دائماً الى مزيد من التشظي بعد الهبة الانفعالية والتضامن الوجداني، لجهة تمثيلها الحر والمستمر لانهيار “المواطنة” وتفتت الدولة والعقد الاجتماعي قبالة صعود الطائفة والعشيرة والمنطقة، وبات العراق يعيش تسييلاً للتاريخ واعادة انتاجه، وكأنه يمر بزمن دائري يبدأ حيث ينتهي، ومع كل اعادة تدوير تبرز ظواهر مشوهة تدمر المستقبل.

ويجب الاعتراف بدقة وموضوعية، بان انهيار الدولة وانفلاش المجتمع وصعود الشعبوية والفئويات، ليس نتاجاً لانهيار “حكم البعث” في العراق، انما هو نتيجة واقعية جداً لانعدام الدولة وتفكك المجتمع وموجات الاجتثاث والتخوين والتهجير والانقلابات الدموية والصراعات الحزبية والحروب الكارثية منذ العام 1921، فبلغ العراق قمة هرم التدهور التاريخي للمجتمع، واختلال بنية ومنظومة القيم والاخلاق العامة ايضاً، يمثل قروناً من التشوهات والتحولات التي اجهزت على الروح العراقية. وعليه فأن مرحلة تفكك العراق، انما بدأت فعلياً منذ قرون، وبلغت مرحلة النضج عند عتبة تشكيل العراق الانكليزي.

طبيعة المجتمع العراقي تمتاز بالتعقيد، لكن يمكن ايضاً تسطيحها اقتصادياً، فالمصلحة الشخصية، تمثل دعامة اساس ‏في فهم العلاقة مع (الوطنية/ الدولة/ السلطة)، ونتيجة لانهيار هذا المثلث، بات المجتمع في العراق يعيش حالة متقدمة من “المشاعية” و”الزبائنية” التي ترعاها منظومة الفساد الواسعة، وتحول التعامل مع “الوطن” على انه مكان للارتزاق لا دولة.

وحتى مع بروز “وطنية السلاح” التي اختلقتها الازمة الامنية العميقة ما بعد 2003، والادوار المُرّة التي لعبها ذاك السلاح في تطويع المجتمع وصياغة سلطات داخل السلطة الواحدة، وتيارات داخل الطائفة الواحدة، ومحاولة السلطة الحاكمة تبرير انتشار السلاح غير الشرعي واضفاء طابع من القداسة والمشروعية عليه، ولاسيما في تجربة ما بعد سقوط الموصل في حزيران 2014، وفتوى “الجهاد الكفائي” التي اصدرها المرجع علي السيستاني، وتلقفتها المجاميع المسلحة لتكون حجر زاوية بناء الدعاية لـ”الوطنية المقدسة” لشرعنة “السلاح” وسطوته وتبرير وجوده بوصفه ضامناً للوجود الفئوي القابض على السلطة.

بالعموم فأن هذه التجربة الاولى لبروز السلاح، فقدت جرّبت السلطات الحاكمة والسلطات الموازية لها على مدى عقود، تحرير العنف الاجتماعي عبر كيانات مسلحة موازية لاستنقاذ السلطة واضعاف الدولة المؤسساتية، فعقب انقلاب العسكر في العام 1958، عمل الشيوعيون حلفاء السلطة الشكليون على انشاء جماعات مسلحة برزت خلال تمرد عبد الوهاب الشواف في كركوك – الموصل (1959)، وشَكَلَ البعثيون عقب انقلاب شباط 1963 (الحرس القومي)، وفي العام 1970 شكل نظام (البعث – صدام) ميليشيا “الجيش الشعبي”، وفي التسعينيات شكل النظام ذاته ميليشيات موازية (فدائيو صدام – 1994) – (جيش القدس – 2000)، وعلى المقسم المعارض، كانت الاحزابات والكيانات تشكل جماعاتها المسلحة والتي لعبت دوراً مريعاً بعد سقوط سلطة صدام، كـ(فيلق بدر – 1982) و(كتائب الشهيد الصدر) و(البيشمركة كذراعين مسلحين لحزبي الاتحاد الوطني والديمقراطي الكردستاني)، وبعد 2003 تشكل “جيش المهدي”، ومن هذه التشكيلات فرّخت ميليشيات متعددة الولاء والهوية، استقرت اخيراً بـ”الحشد الشعبي”. والسلطة دائماً تستوعب الفقراء بتشكيلات السلاح.

وبالخلاصة، ‏‪ضياع الهوية الوطنية اربك ما يمكن وصفه على انه مجتمع في العراق، فلربما هناك هويات فرعية ازدهرت كالشيعة والكرد لكنها بالنتيجة هويات فصامية مريضة، ‏وظلت الهوية السُنية هوية معتلة ومنكمشة ولا تحسن التعبير عن نفسها لجهة انها ارتبطت بمفهوم السلطة القابضة دوماً، ولم تعش خارجها وحين مارست دور المعارضة جنحت نحو التطرف والعنف الموجه.

وكفرضية مثبتة، الهوية الشيعية بامكانها ان تعيش خارج اية محددات وطنية وبظل انعدام الدولة، لكونها تأسست كمجتمع عميق تاريخياً، ‏‪اما الكرد فأن هويتهم القومية ونزوعهم الانفصالي التاريخي عزز لديهم مفهوم مواطنة تاريخية ذاتية ابعد من العراق ينتمي الى الانكفاء العرقي والانحياز العنصري. ‏‪اما المكونات الاخرى كالتركمان والايزيديين والمسيحيين والصابئة فتعاني من انفلاش الهوية التاريخية مرتبط بحالة الاستقرار الهش، ‏‪هذه المكونات هي الضحية الاكثر تأثراً بالتفكك العراقي لجهة ان هويتها الفرعية هوية ثقافية لا سياسية وبالتالي تنفلش وتضمحل بسهولة.

أضف تعليق