العنف والكراهية في الشعر العراقي

من شراك الايديولوجيات الى “الشعبوية” و”داعش”


صفاء خلف


تبتكر الشعرية العراقية صيّغاً شديدة الخصوصية ضمن بُنية الشعرية العربية الحديثة، فهي تكافح بشدة للحفاظ على ما يُصطلح عليه بـ”الجيلية” – رغم خفوت المقومات – بوصفها واحدة من “الهياكل المقدسة” وحقل الاشتباك المستمر بين الداخلين الجدد الى نادي الكتابة الشعرية، والانماط التجريبية والبنى التقليدية في مشهد الشعر العراقي – سواء تمثلات الشعر القديم (العمود) والحداثات الجديدة -، ومع كل مرة تخرج “جماعة شعرية” عن تلك البُنى التي تدخل ضمناً في الاشتباك، وتُرسخ لنفسها موضعاً في الكتلة التي تتراكم كطبقات، لكنها طبقات معادية لبعضها، واحياناً تحاول نسف التجارب او محوها بأخرى جديدة.

غاية العلة ان هذا التواصل الشكلي للحقب الشعرية العراقية، تكمن في تفاصيله، محاولات حثيثة للانفصال عن الجسد والذهاب بعيداً في حقل التجربة التي تعيد المُجرِّبِين الى الجسد الشعري العراقي مجدداً. لذا “الاجيال” في حقيقتها محاولات انفصال “غير شرعية” عن التجربة الكُلية التي انتهى بعضها الى افرازات شعرية مشوهة غير قادرة على هضم الدرس الشعري العراقي، ولا تستطيع ان تؤسس لمنطق خالص يجعلها نتوءاً بارزاً على الجسد المتورم لفرط التقاطعات والشخصنة، ولاسيما مع صعود “الشعبوية” و”داعش” وافرازات “المقدس”.

الشعر تحت سطوة الايديولوجيا

بدءاً من اوائل القرن المنصرم (1900) والشعرية العراقية تعيش حالة من الاضطراب الاجتماعي والبحث عن هوية. وكل تجريباتها استدعت مواقف سياسية واجتماعية، وقلّما نجد طبقة من تلك الطبقات لم تُتّخَمْ بالهم “السياسي”، إن لم تكن شريكة اساسية في تدعيم الاضطراب بتمثلاته الاجتماعية، وحتى الممارسات العُنفية الوطنية كانت حاضرة في الممارسة الشعرية، اما بوصف الشعر كقيمة مُضادة للسلطة ورجعيتها (الملكية – رغم انها قدمت نماذج تقدمية)، او منحازة اليها بوصفها تقدمية (الجمهورية – رغم انها اسست للعنف والرجعية والشعبوية الاجتماعية)، وحين برزت الاصوات التجديدية الاولى، كانت اصواتً تريد ان تكون صدىً لـ”النهضة العربية” و”التحرر السياسي” و”الانقلاب على التقليد”، عبر استحضار الملكوت الميثولوجي بوصفه مُنقذاً ثقافياً في ظل “اضطراب الهوية”. فاستدعت الكتلة التقليدية (العمود) الارث العروبي فيما استدعت الكتلة التجريبية التقدمية، الارث الحضاري الميثولوجي، وما بينهما كانت الهوية الثقافية العراقية تتمزق وتخرج منها الطلائع الشعبوية التي وصلت الى اقصى توظيفاتها اليوم في عراق ما بعد 2003.

علاقة الشعر العراقي بـ”العنف”، اشكالية مرعبة، واذا ما جرّب بَحّاثة ما ان يُخضعها للتشريح، فسيُصّدم بالكتلة الشعرية الفظيعة التي اعتاشت على العنف وترعرت في حقله، وهذا الاعتياش ليس بضرورته نتاجاً مباشراً للاصطفاف مع السلطة بمختلف توصيفاتها وفاعليتها، بل قد يكون ناتجاً لعنف السلطة تجاه المجتمع وذوبان الكتلة الشعرية بذاك العنف والانحياز الى اللغة المتجبرة والاشتباكات بين التجارب نفسها، عبر الالغاء والمحو والفرز والتصنيف و”الحزبنة”. انها تجربة عميقة ضارة بروح الشعر.

في لحظة ما؛ باتت الشعرية العراقية تشتغل على نصب الفخاخ الايديولوجية وتعليب “الشعراء” في مناطق الاشتباك بناءً على الانتماء السياسي، وخلال فترة الستينيات والسبعينات ظهرت بُدعٌ هزلية مضحكة تعبر عن حقيقة تلك الاصطفافات، كأن يُصدر ناقدٌ كتاباً عن “جيل حزب البعث الشعري”، ويرد آخر بكتابٍ عن “جيل اليسار التقدمي”، وظل الشعر يفور كأنه مرجل غاضب لا يقترب منه أحد مخافة “اللسعة” التي يظل اثرها طويلاً كالوشم الذي لا يُمحى. لكن بالنتيجة، الشعراء “تَلَسّوَعوا” بالشعرية السياسية والحزبية، وتركوا الشعر وحيداً في القفر العراقي، كأنه الطريد المُعاقب.

تجارب بداية القرن، اقترنت بالهموم الوطنية، وطرد الاحتلالين العثماني والانكليزي والمطالبات التقدمية بتحرير المجتمع عبر التعليم، وتحرير المرأة عبر منح الحقوق، وتحرير الدولة عبر الدسترة. وحين انهار ما يُعرف بـ”النهضة العربية” التي كانت بلا قضية مركزية خارج الهموم “القطرية – المحلية”، حتى استدعت القضية الفلسطينية لتكون “لوغوس” الهم العربي الدائم. وهنا تحولت او اختلت البوصلة التي تتراقص دون موضع مستقر، بين “المركزي القومي” و”الوطني المحلي” او “الاممي اليساري” بترابطهم او تنافرهم.

وحين استلقت الشعرية العراقية لأول مرة تحت الشمس وانتجت “تجريبية التفعيلة” و”الشعر الحر”، والخروج على الوزنية الكلاسيكية العربية برغم تأثير ابرز ممثليها الشرعيين (الجواهري) الذي كان تقدمياً في بُنيته التجريبية، وثورياً في تمثله الاجتماعية، لكنه ظل تقليدياً في نمطه الكتابي. ولمّا اخترقت الشعرية العراقية لجّة التنميط، واسست لفاعلية شعرية جديدة، كانت اكثر ثورية وتقدمية من (السلطة/ المجتمع/ الفاعل الثقافي)، وظلّت متهمة بـ”تضييع التراث” والانقلاب عليه قبالة الترويج لـ”الحداثة الافرنجية”.

لكن تلك التجربة استدعت لها تمثلات من التراث نفسه عبر الاشارة الى “طبقات المحدثين” و”البديع” والجهد النقدي الكبير الذي بُذل بمرحلة التأسيس، من قبل ابن المعتز العباسي وقدامة بن جعفر، ومن قبلهما “الجمحي: طبقات الجمحي” و”ابن قتيبة: الشعر والشعراء”، كدفوعٍ تراثية عن طواعية اللغة وشعريتها وقدرتها على التطور، واستدعاء الميثولوجيا سواءً الرافدينية منها او الانسانية، كدفوع ثقافية عن اصالة التجربة وقدرتها على الاستيعاب والاتيان بموضوعات جديدة بعيداً عن قوالب البنى التقليدية. لكن هل كانت هذه التجريبية بعيدة عن “الكراهية” التي يُمكن تصنيفها كـ”عنف”؟!

قد يكون بدر شاكر السيّاب، ابرز المشتغلين على ثنائية العنف/ الهم الاجتماعي، عبر تجربته النادرة، فموضوعاته التي كانت يسوقها تتحمل هذا التكييف المباشر وغير المباشر في فهم بنية “اصالة الكراهية/ العنف” في الشعر العراقي، ففي ملحمته “الاسلحة والاطفال – 1954” يقول: [“حديــد عتيق، رصـــاص، حديــد”/ وكالظلِّ من باشقٍ في الفضاء/ إذا اجتاحَ، كالمديةِ الماضية/ عصافيرَ تشدو على رابية/ ترامى إلى الصبيةِ الأبرياء/ نداءٌ تنشّقتُ فيهِ الدماء/ “حديدٌ عتيق.. رصاص.. حديد…”/ حديدٌ عتيق لموتٍ جديد!]. وهذا النص ذاته فتح ميزاب الكراهية بيّنه وبين الشيوعيين كما ادعى بسلسلة مقالات التشهير التي كتبها ضد الحزب اواخر 1959.

انبياء القبيلة الكافرة

المنطوق الشعري قد لا يكون بالتحديد هو الدال الوحيد على الكراهية والعنف في الشعر العراقي، لكنهما بالضرورة يشيران الى البيئة التي توالد بها ذاك الشعر وتطوّر؛ فالهجمات العنيفة التي شُنت على فعالية التحديث الشعري، كانت مريرة. لم تسل دماء الشعراء، لكن دم الشعر هو الذي سال وتجلّد.

رفض التجديد كان عنفاً حقيقياً عرقل الحداثة، وسحب النشوة الخيالية للشعراء الباحثين عن التميّز الى المواجهة السياسية المحتدمة. فغالباً؛ لم تكن المطبوعات العراقية تنشر النصوص التجريبية الجديدة في العراق، اعتبروها اعتداءً على هوية الدولة والمجتمع!

لذا فالنصوص الاولى ظهرت خارج العراق، وترعرعت وذاعت خارجه ايضاً، وظلّت منبوذة ومعاقبة في الداخل حتى بعد ان حازت التقدير والاصالة. واحياناً تقدم الى المحاكمة كتجربة حسين مردان – رغم التحفظ عليها من الناحية الفنية – كانت سابقة خطيرة ان يُقدم شاعر الى محاكمة بسبب “الشعر”. كتب مردان “قصائد عارية – 1949” وقُدم الى محاكم الاداب الملكية، وحُرم من النشر، لكونه اولاً كسر مزاج “المجتمع المحافظ” واخيراً تجاوز على “الهوية العروبية للثقافة”.

يقول عبد الوهاب البياتي (ما يبقى بعد الطوفان – 1996): “كانت قصائده لافتة للانتباه حقاً، فهو يتحدث بحرية تامة عن الحب والجنس، وبطريقة اباحية لم نألفها من قبل…”. لكن بالنهاية تم ابتزازه وتقديمه كشاعر ضمن الجوقة الشعبوية التي تتقبل الهتاف السياسي بوصفه رمزاً للتحرر الاجتماعي حين عُيّن مديراً للاذاعة قبل وفاته اوائل السبعينيات.

من المحرج، تَفَهُم نقل الحمولة السياسية للشعر العراقي من “جيل” الى “جيل”، ووضع كل ذاك التقاطع والكراهيات في صورة دينامية التطور، يمكن اجمال التجربة بكاملها بنمطين اساسيين:

[التقاطع السياسي VS التقاطع الفني]

وكل منهما ينفذ الى الاخر بشكل ما، ويتموضع فيه ويؤسس لصورته الباهرة والمخجلة في آن. يجب ان نفهم ان سياقية هذا التموضع هي سياقية المناخ العام للحقب السياسية والاجتماعية التي مر بها الشعر العراقي، وانتج متونه الغاضبة والمتوائمة ايضاَ، واثمر تجليات رائعة من التجريب، لكنه ايضاَ انطوى على الكراهية الشخصية بين تلك “الاجيال”، وحمولة العنف التي تسربت الى اللغة والطريقة والعلاقات البينية، ووصولاً الى الستينيات، حقبة التغيير والانتفاض على القيم القديمة. كانت اغلب العلائق الفنية مفضوضة، والوشائج الشخصية تتصارع.

صراع الاشكال ادى بضرورته الفنية الى صراع “الاجيال” وعبر حمولته غير البريئة اوصل الشعر العراقي الى “الالغاء” والثأرية البدوية التي عشعشت في “التقدميين”. فالمجموعة التجريبية الثورية حملت رايتها وتنافست على الشعر وكأنه “وصية دينية” يجب ان تختم بـ”القداسة” (صراع السياب والبياتي)؛ يقول السيّاب: “لاحظت ان بعض المتشاعرين التافهين من امثال عبد الوهاب البياتي وزمرته قد برزوا بشكل عجيب نظراً لخلو الميدان لهم”، والمجموعة اللاحقة التي شكلت (جماعة كركوك) وانفضت كاصحاب يسوع في العشاء الاخير، قدمت نماذجها منفردة بالتزام وعقائدية، وسعى فاضل العزاوي ان يكون “نبياً” مؤمناً ضمن قبائل الشعراء الكفرة، وهو الذي يقول عن نفسه: “هكذا وجدت نفسي، بعد تجربة ثلاثة أعوام من الاعتقال والسجن، متحرراً من كل وهم أيديولوجي قديم، مدركاً تراجيدية العلاقة القائمة بين الضحية والجلاد، ليس في السياسة فحسب، بل في الفكر أيضاً، وقبل ذلك معنى أن أكون ضد الأوهام كلها”. لكن هذا التحرر، لكن يكن تحرراً حقيقياً بل كان تحرراً مشروطاً دافعه الرغبة العنيفة بالانفراد. ولعل الاعترافات – بغض النظر عن الادعاءات – التي كشفها العزّاوي في مقاله (الكتاب الاول – مخلوقات فاضل العزاوي الجميلة) كافية لنكتشف ان النبي المتمرد المتحرر من الايديولوجيا وقطعان الشعراء القبائليين، كان خاضعاً ببساطة لموظف رقابة شطب بالاحمر ثلث كتابه الاول، ولربما هذا الشطب هو الذي قدم الينا العزاوي شاعراً مجيداً.

يطل السؤال: اين اصالة العنف اذن؟!

انها ببساطة، حروب الالغاء والتقاطع والضدية الشخصية والبيانات الشعرية المتهافتة والصراعات الفنية المتأسسة على فهم سياسي لحركة المجتمع، فحين يُسلم الشعراء انفسهم الى الايديولوجيات، فهم بالضرورة يحملون سكاكين طويلة لطعن تجارب بعضهم ونسفها. وهذه السكاكين بانت بعد عقود حين اصدر اولئك المجرِبون، مواقفهم الحادة كالنصول السامة في كتب سيريّة، يسعون فيها الى اعادة التموضع بالزمن مجدداً، وتصفية الحسابات القديمة ونقلها من تخوت المقاهي والشقق وصفحات الجرائد الايديولوجية، الى الزمن السايبري الجديد المتخم بالصورة والتفاصيل المتعجلة.

كتبٌ استعادت الكراهيات القديمة وقدمت “مجدها” من اجل تثبيت الالغاء. ولعل حُمى المحو تلك برزت عند الستينيين والسبعينيين، المنشغلين حتى الان بتلك الحقبة الزمنية البعيدة يفتحون جراحات بعضهم ويسكبون فيها مزيداً من ملح الكراهية حتى لا تغلق الالام. انها جلجلة الشعرية العراقية.

يقول شاكر لعيبي – بكتابه (الشاعر الغريب في المكان الغريب): “لم يشهد الشعر العراقي من قبل مثل هذه الحُمى الكلامية في الاعلان عن مجد الذوات الشخصية (…) هذه الحُمى اعلنت مرات عن نبرةٍ شرسةٍ لم تكن تقتصد باستخدام اقسى النعوت في وصف مخالفيها”. لكن لعيبي اصيب بتلك الحُمّى ايضاً في كتابه.

في حصيلة الكراهية/ شخصنة التجربة التي قُدمت على انها سيّر ثقافية – شعرية، على سبيل الدلالة فقط – لا على سبيل التوثيق والحصر – (الموجة الصاخبة لسامي مهدي – 1994)، (تربية عبد القادر الجنابي – 1995)، (الروح الحيّة لفاضل العزّاوي – 1997)، (الشاعر الغريب في المكان الغريب – 2003)، (تهافت الستينيين 2006) و(شاعر الراية وشاعر المتاهة 2017) لفوزي كريم.

ولعل هذا المناخ المتوتر والمُشبع بروح الازاحة، يجيء منساباً من بحيرة السُخف الشعبوي الذي اطلق مدامكه شاعر كبير ومجدد كبدر شاكر السياب في سلسلة مقالاته المؤذية والشنيعة (كنت شيوعياً) التي قدّم نفسه بها كـ”مرتزق شعبوي” ينقلب على قناعاته وفقاً لافرازات وظيفية حياتية بحتة.

ويكشف في سلسلة المقالات التي كتبها بجريدة (الحرية) البغدادية (1959) كـ(29) حلقة بعنوان (كنت شيوعياً) و(11) مقالاً بعناوين مختلفة، جمعتها منشورات الجمل بالعنوان نفسه (2007)، عن صورة بشعة لشاعر رقيق، حين تحوّل الى “مخبر ثقافي” لصالح سلطة زعيم الانقلاب قاسم الذي يُمجده بـ”الزعيم الاوحد”، فيحاول ان يُشكل السيّاب صورة لنفسه كـ”محتقر للظلم” ومنحاز الى “الفقراء” كما في روايته لحادثة “زنّوبة” في اقطاعية جده “منزل الاقنان” في ابي الخصيب، ويعود فيكفر بذاك الانحياز حين يتقمص شخصية “الفاضل العروبي” حين يسرد علاقة بلقيس التي “ترفّه عن الرفاق – بينهم فهد – بطريقة شاذة خوفاً من ان تحّملْ، وكان للرفيق فهد طبعاً نصيب من التمتع بجسدها الريّان”.

وبلقيس هي في حقيقة معاناتها “زنوبة” اخرى تنتمي الى قريته جيكور، لكن انقلابه الايديولوجي العنيف جعل من “زنوبة” ضحية ومن “بلقيس” عاهرة. ويبرع بدر السياب في قرفه الشخصي حين يتحوّل الى شوارعي رخيص حين يُنكل بأخيه الاصغر “مصطفى” ويسخر من يُتمهِ وخِلّقَتهِ. فالشاعر الكبير المرهف ينحدر الى مستوى فاضح من الكراهية حين يكتب: “لقد ماتت امك وانت طفلٌ رضيع عليل، فنشأت محروماً من عطف الأم، تبكي لكل لوم يوجه اليك (…) وكان رأسك وما يزال وإن اخفاه الشَعّر الان طويلاً، فكنا نُعيّرك بذلك وتبكي، وكان الخدم والفلاحون وأهل القرية جميعاً ينادونك بهذا اللقب المحبب اليهم وهو – ابو راس الطويل-“.

هذه التجارب الشخصية المريضة التي طبعت التجربة العراقية الشعرية، انتجت مستويات من العنف والكراهية، واختطفت النتاج الشعري من تموضعه الفني/ الانساني الى التموضع الشخصاني/ السياسي/ الاجتماعي، وحفّزت الاعتداء على الروح السليمة للشعر، وحوّلتها الى منطقة غدر.

الاشكالية المريرة في العراق: حينما تصطدم التجارب الشعرية والتمايُزات الفنية تتحول الى ضغائن شخصية تُطلق حراب التجريح والانتقاص وصولاً الى الوشاية والازاحة الجسدية، والتحول الى زبائنية السلطة خصوصاً بعد احتلال البعث للسلطة (1968) واشتعال حرب الخليج الاولى (1980).

فكرة العدائية في الشعر العراقي، مرعبة، انها نتاج غامض من نتاجات تفكير السلطة في مرحلة ما، لكنها كتجربة عامة، استجابة اجتماعية لامراض الازاحة والمناطقية والغيرة والانحياز الايديولوجي والسياسي، فكتب السيرة الشعرية والتوثيق، هي في حقيقتها ترسيخ لهذه العدائية وتدوير لنفايات السلطة الاجتماعية والسياسية، ومحاولة مكررة للالغاء الدائم والشطب من الذاكرة.

فالبعثي الصّلف والعتيد سامي مهدي في كتابه (الموجة الصاخبة – شعر الستينات في العراق)، يختطف المرحلة بكاملها ويُنصِّب نفسه حارساً هورقليائياً عليها: ان “الجهد الذي بذلته – يقصد كتابه الموجة الصاخبة – لم يبذله احد سواي، فالذين تحدثوا عنه – يقصد جيل الستينات – اعتمدوا على الذاكرة اعتماداً يكاد يكون كلياً، وهي كثيراً ما تخون، وخيانة الذاكرة تعني النسيان والخلط والتوهم، وتعني، احيانا، التزييف والادعاء والايهام”. وهنا يغمز طرف فاضل العزاوي وعبد القادر الجنابي، عدواه اللدودين، ويشن هجوماً حقوداً عليهما، بل يفرغهما من قيمتها الشعرية.

تقول الناقدة فاطمة المحسن (مقال بجريدة الحياة – 1994) ان: “سامي مهدي (…) لديه شعر مسترسل وجزل ومتأن، ولديه ايضاً شعر المديح وتمجيد الحرب والقوة، ولكن خطابه الآخر في باب الكتابة عن الأدب، على درجة عالية من العنف والتعالي والقسوة، ولعله يمثل خلاصة لغة السلطة التي تجعل من الديماغوجية في الثقافة والمجتمع هدفاً أساسياً. إن ظاهرة سامي مهدي ترينا كيف يتحول الشاعر الى هراوة مُسلّطَةٌ على رؤوس من يعارض نظامه، فلا عقل نقدي يملكه ولا اعتقادات نسبية تحكم تنظيراته، وفي معظم ما يكتبه، نجد تلك اللغة المبطنة بالتهديد والقسر والاتهام”.

ظلّت تلك الروح البغيضة تستوطن سامي مهدي وتسيّره وترّفعه الى منزلة الحقد الاعمى، وهي في حقيقتها مَرتبة بشرية وضيعة. وظل يدير معاركه بالطريقة التي وصفتها المحسن، وعلّمها لتلاميذه النجباء. وللطرافة ان الحقد الاعمى لمهدي تحوّل الى هوسٍ ومَرَضٌ ذهانيٌ فهو يطادر اطياف اعداءه الشعراء بداخل نفّسه، كأنه سجينهم الذي يستفزونه لبقائهم احياء ولم تبطش بهم سلطته التي تغذيه بالكراهية.

مثلاً في شباط العام 1980 بالعدد (1) من مجلة الاقلام، ينشر سامي مهدي نصّاَ صغيراً بعنوان “عبد الله الموهوم” ويشير انه: (الى: س . ي)، ومن دلالتي الاحرف ومضمون النص، نكتشف انه سعدي يوسف. يقول سامي:

(جنةٌ هي ام لعبة صرت تتقنها وتزوقها بيديك؟ انت تنشئ مما توهمت زنزانة/ وتجند في بابها شبحاً تدعي انه شرطيٌ، وتصطنع الرعب منه.. وإذ لا يجاريك تحشو مسدسه بالرصاص وتغريه ان يطلق النار، غيظاً عليك/ انت لم تتغير اذا/ هو الوهم تسعى اليه اذا ابتأست.. فيسعى اليك)

لكن ما يجب الاعتراف به، ان العراكات الثقافية قبل احتلال السلطة من قبل زمرة القرية (1968)، كانت عراكات ثقافية اجتماعية يتداخل معها السياسي، لكنها بالنهاية ليست تدخلاً سلطوياً، على عكس العقد السبعيني وما تلاه، حين توغل فيه التدخل السلطوي عميقاً، وفرض انماطاً من التفكير والكتابة والقيّم، واخضع كل الحراك الثقافي الشعري وغيره، لضرورات الحراك القومي – الماركسي، وانشطرت الثقافة انشطاراً عنيفاً ادى الى تشقق الكتلة الصلدة للتفكير والكتابة، وكان الشعر حينها هو الصوت العالي، ما جعله فرس الرهان الذي تتعارك على ترويضه السيوف الباشطة للسلطة والايديولوجيا المضادة لها. فابتدعت كل سلطة توليفة من الانحياز الفكري والوظيفي للشعر، ما بين العودة الى الرافدينية او الانطلاق الى الاممية، وابتداعات “تفجير اللغة” و”لعبة الرموز” وتحايلات “القصيدة الميكانيكية”، وصولاً الى العقد الثمانيني، لتنفلش كل هذه البُنى الدراماتيكية، حين البست السلطة الشعر، البزة الخاكية وارسلته الى السواتر مشحوناً بالشوارب الثخان وضباط الامن السياسي.

شاحنات القلق: الكتابة بالساطور

الفترة الثمانينية الشعرية العراقية، المنطقة الاشد موتاً وظلّمة، هي الهوة السحيقة التي طُحِنَ بها الشعراء وتفتت عظمهم. لم تشهد الشعرية العراقية حالاً أبئس من تلك المرحلة، ولا ضياعاً كارثياً كذاك الضياع الجنوني بين متاهة الحياة في المدن المحروسة بالمخبرين ومطاردي الفارين من الحرب، ومتاهة الموت المزروعة على السواتر والاراضي القفر على حدود ملتهبة، كان الشعر يتيماً وغريباً وشاقاً ومُكلِفاً، مُحاصرٌ في الداخل، ومهموماً منشغلاً بالخارج، فكانت هاتان الثنائيتان خصيصتا الشعر الثمانيني: [الحياة/ الموت] و[الداخل – الحرب/ الخارج – الحرية] وهما يُفضيان الى اللاهوية التي طبعت نتاج تلك الحقبة – هذه اشارة تعميم لا اشارة تخصيص فالتجارب المفردة متمايزة بناتجها -، وهذه اللاهوية ادخلت الشعر في العمى، والغرق بالرمزية التي بغالب الاحايين كانت تفضي الى لغة عاطلة لا تؤشر على شيء جراء، صدمة الحرب وانعدام حرية التعبير وتسلط السلطة التي ساقت معارضيها الى السجون والمشانق وغرف الاعدام بالرصاص او الى الجبهات التي هي ايضاَ ميدان اعدام مفتوح. لذا جاءت الاشتغالات لغوية باذخة يراد منها الافلات من الرقيب والتعبير بغموض عن الرفض والحنين الى الالفة.

لذا برز تيار عريض من شعراء يكتبون بلغة واحدة متشابهة ويبحثون عن التهويم، ويراهنون على الرمزية والتجريد بوصفهما منطقة خصبة لتكديس الصور المُهوّمة. وكما يصفهم الشاعر محمد مظلوم بكتابه (حطب ابراهيم – الجيل البدوي 2007): انه “المُغترب، المنفي داخلياً وخارجياً، لا ارض ميلاد ولا ارض ميعاد، ولا مبعث (…) انهم بدوٌ، لأن تخوم حياتهم تقع بين الحرب والمنفى، بيّن جوقة الحطّابين الذين يعدون ناراً لإحراق المستقبل، بين المدن التي يصلونها ولا يجدون حياتهم”.

فكرة الشاعر الثمانيني، مخيفة، انها تمثل انفلاش الانسان ازاء تكسّر العالم الشخصي المحض في داخله، تشظيه على امتداد واسع من الخيبة الاجتماعية والشعرية، فهذا الشاعر فقد الطمأنينة التي تُعرّفهُ بالشعر، وفقد اللغة التي تُعينهُ على الكتابة، بل فقد القدرة على الاستقرار، ظل طريداً بداخله بين دزينة الاحلام التي صاغتها المرحلة السبعينية بشمسها الساطعة وحراكها الفكري – الايديولوجي، وبين القطع المُسنن لشرايينه الذاتية حين خيّمت على حياته الدافئة برودة الوحدة وهو يُرمى الى السواتر والزنازين او مكاتب الرقابة التي تفتش بالضمائر عن مفردة تؤذي “ابوة” السيد الرئيس.

المرحلة الثمانينية مثلما صنعت ضحايا من شعراء، خلقت ايضاَ مسوخ سلطة عشعشت بمكاتب الحكومة وجرائدها ومجلاتها وصفحاتها الثقافية، تدربوا جيداً على لعب ادوار النقاهة الفكرية، لينتقلوا الى عتمة المرحلة التسعينية كرقابيين محترفين، وبعد الانهيار الكبير في 2003، عادوا الى ذات دور “النقاهة”، باحثين عن “مَطّهرٍ” يغتسلوا به من الآثام، ويقدموا حواديت البراءة المزيفة، فاخرجوا من سراديب عتمتهم؛ كيف انهم كانوا يعانون من ظلم السلطة الحانية عليهم، وان عذاباتهم في مكاتبهم المُكيّفة كانت جحيماً وهم يتسلمون مكافآت “ديوان الرئاسة”، وان الظُلمة التي وقفوا فيها، كانت زنزانة قسرية لدفع ثمن الانتماء الى الشعر!

انتقلت الكراهية وعبادة التجربة الشخصية واقامة الهياكل المقدسة، من “جيل الانبياء” في الستينيات، الى الثمانينات، بصيغٍ شعبوية، ففي عهد الحرب، كان الرهان ان ينجو الشاعر من “الخاكية”، وان لا يذهب الى السواتر مشحوناً بالقرف، فكان التقاتل على حيازة هذه الميزة، هي الرغبة العاصفة التي كشفت عن بطن الكراهيات والعنف، وبالاساس فثمة شعراء مسجلون على قيد الدفتر الايديولوجي، فأما بعثيون وأما شيوعيون ماركسيون، واما مستقلون وهم القلّة، فكانت الوشاية سيدة تلك الحقبة، والتقارير المدسوسة التي تصل الى “نواطير الثقافة” كافية لاقتلاع شاعر بحزمة اوراقه، فمارس شعراء ومثقفون دوراً مخزياً حين صاروا رقباء سياسيين على اصدقائهم وهم يحزون رؤوسهم بالعداوة. لتستكمل السلطة اجهازها على الشاعر الثمانيني المغيّب، بابتداع (ادب الحرب/ او / ادب قادسية صدام) التي كانت ملاذاً لعدم العبور الى الجبهة. فوظف الشعر في خدمة السلطة. لذا كانت نقلة موجعة من النص المعبر عن نمط تفكير المجتمع إلى نمط تفكير السلطة.

بهذه المرحلة، صُنعت الكراهيات الشعرية الاكثر عُنفاً. ذاب الشعر في ميزاب النفوس المعتلة اما من الظلم او من السطوة، ولأول مرة يساق شعراء الى المشانق والسجون، او يرغمون على الهرب عبر طرق قاتلة الى خارج الحدود، كتب لبعضهم السلامة في المنفى، وبعضهم قتلوا وضاعت جثثهم لا سيما في الحرب الاهلية اللبنانية.

يكتب عبد الرزاق الربيعي (شاعر ثمانيني) في ملف مجلة ضفاف (الشاعر والعالم – راهنية الشعر العراقي [1980-2000]): “مصيبة جيل الثمانينات هي الشللية. وكل مجموعة عندنا تؤرخ الجيل تمحو المجاميع الأخرى. جيل الثمانينيات ممزق، قابل لانشطارات. لذلك فالتناحرات فيه على أشدّها. (…) لعبة الأجيال سحقته بين السبعينيين الذين سادوا قبل الحرب {في المؤسسة الثقافية وبين التسعينيين الذين ظهروا بعد الحرب} فالذي يسحق جيل الثمانينيات هو جيل الثمانينيات نفسه”.

ان هذه الشللية ليست نتاج الثمانينات، بل هي مثول تاريخي امام انكفاء المجتمع وتشظيه وانعدام ملامحه، فهي بدأت مع الستينيين وحركتهم بالانعزال، وتأسيس الجماعات والمطبوعات، فمجلة “الكلمة” لحميد المطبعي كانت تحاول ان تؤسس للحركة الستينية، فيما جماعة مجلة (شعر 69) التي ادعت انها حاملة الشعلة الشعرية العراقية على شاكلة مجلة شعر (1959) البيروتية، اسست لمفهوم الشللية بوصفها غربال اعتراف بـالشعرية، ومن انعزالية الستينيين والبيان الشعري لفاضل العزاوي، خرجت الشللية الثمانينية، وهي تنتج بيانات شعرية يومية كدليل على تناحر الشعراء ما بينهم، والرغبة الهيستيرية بالاقصاء والتمايز.

كانت تلك البيانات عبارة عن فتاوى تكفير لمن يعارض الايمان الشعري لكل جماعة. ربما استمد الثمانينيون تلك الرغبة من السلطة نفسها التي كانت تفرز وتقصي وفقاً لعداواتها. لكن ما مصير تلك البيانات ورموزها وشعراؤها؟ وهل استطاعت فعلاً ان تؤسس لنمط انقلابي جديد من الكتابة؟

ويطل سؤال مُضاف: كيف يمكن للشعر ان يكون قاتلاً؟!

ليس بالشعر القاتل، بل السلطات والشلل والنزوات والانحيازات والازاحات هي القاتلة، فحين تتراجع الموهبة تطل برأسها الازاحة، وحين يغيب التنوع يطل برأسه الالغاء. فالسلطة كانت عروبية شعبوية، وباتت تفتش في التاريخ عن تمثيل ثقافي شرعي لمنهجها، فاعتبرت ان الشعر بوصفه “قصيدة نثر” هو انحياز لئيم وخيانة فكرية للصوت العربي التقليدي واصطفاف مع “الشعوبية” ضد النقاء القومي الذي يمثله الشعر التقليدي (العمود)، هنا بات الشعر قاتلاً. وبات التعاطي بالنص النثري يتم تداوله خارج اطار الرسمية، فيما المؤسسة تحتفي بالتقليدية، وجيش الشعراء الكريه العاطل عن القومية يقف خارجاً مهمومٌ بنصه “المُلوث” الذي بات شكله فقط، تمثلٌ من تمثلات معارضة السلطة.

اوائل التسعينيات عقد مؤتمر نادرٌ عن قصيدة النثر في العراق، وبحسب عدد من الشعراء المشاركين، انه – أي المؤتمر – افرز اوراقاً ورؤى ومراجعات هامة، وكان بالامكان ان تكون المرجعية التاريخية لتأصيل حركة النثر العراقي، لكن تلك الوثائق اختفت بغموض. او لربما انها اخفيّت عمداً لتعكير التجربة وطمس اسهامات مشتغليها.

وزيادة على اشكالية فهم السلطة للنص الثمانيني، كان الثمانينيون انفسهم يستشكلون على بعضهم البعض، ويبحثون عن كل بذرة قطيعة ليمطروها بالكراهيات البيّنية حتى تكبر وتصير شجرة وارفة يستظلون تحتها جميعاً.

هذه الكراهيات والانعزالات والبيانات والصخب، هروب من اليأس وظل الحرب الثقيل، وانفلاش المجتمع وقتامة المستقبل. فشاعت التسميات لتلك الشلل على مقياس بياناتهم، لكنهم في دواخلهم شعراء رائعون يبحثون عن الحياة وعن احلامهم التي تفتت.

يكتب علي عبد الامير عجام في توصيف ملامح ايجابية عن تلك المرحلة:

[نالت نصوص ذلك الجيل حفاوة من اوساط ثقافية عربية، لكنها في آن نالت من المؤسسة الثقافية العراقية السخرية والصمت! فتلك المؤسسة اوصدت ابوابها باحكام ففي الوقت الذي بتنا نقرأ فيه نصوصاً لشعراء من جيل الثمانينيات في (الكرمل)، (اللوتس)، (الناقد)، (مواقف)، (كلمات) و(اليوم السابع) نجد المؤسسة الثقافية الرسمية وقد حلت الموضوع حسب طريقتها: اهمال الموضوع برمته!

محاولات الاعلان كانت فردية، تتسم بالاختراق الشجاع مثلما فعل الشاعر عدنان الصائغ حين كان يعمل في القسم الثقافي لمجلة (حراس الوطن) حيث نشر ملفاً موسعاً عن شعراء الجيل وبعنوان لافت: “الثمانينيون قادمون”، كذلك ثمة الفسحة التي اتاحتها لهم موضوعية شعراء مثل زاهر الجيزاني وسلام كاظم حين اعدا كتاب (الموجة الجديدة) عن الشعر العراقي 1975 – 1985. وما اكده لاحقاً الجيزاني من تلك الموضوعية حين قدم ولأكثر من مرة نصوصاً مميزة لشعراء من الجيل عبر عمله في مجلة  “الطليعة الادبية” اواخر الثمانينيات، كذلك الاعلانات والتمهيدات التي كان يكتبها الشاعر كمال سبتي في بابه الثقافي الاسبوعي “كلمات في المهب في ” جريدة “القادسية”.

غير ان المفارقة كانت تأتي من جهة مجلة “اسفار” التي كانت تصدر عن “منتدى الادباء الشباب” وهي التي ظلت تبني عزلتها عن هذا الجو الذي يفترض ان تنتمي اليه طبيعياً: الشباب، التجديد، المغايرة… الخ. هذه المجلة عادت الى بعض صحوها بعد ان طالت التغييرات هيئة وسكرتارية تحريرها حيث قدمت عدداً خاصاً مميزاً لشعراء الثمانينيات حفل بالنصوص والنقد والشهادات ايضاً وكان وثيقة مهمة في حياة الجيل نصياً ونقدياً.

غير ان المأثرة الخاصة بالشاعرين باسم المرعبي وخالد جابر حين اقتسما من العراق اضافة الى اللبناني يحيى جابر “جائزة يوسف الخال” للشعر عام 1988 هي التي قدمت جيل الثمانينيات الشعري في العراق عبر وثائق ابداعية راسخة وفوزهما بالجائزة اضافة الى قيمته المعنوية كإعتراف بموهبتهما، استطاع ان يزعزع النظرة الجامدة التي لا تخفي مرجعيات قسوتها والتي كانت تنظر نحو النتاج الشعري الجديد بكل ارتياب، كونه كما قلنا كان يحاول اكتشاف المشهد وتفصيلاته دونما الانسياق في الوصايا والاعلانات الرسمية في الرعاية] -.

حرب أخرى لأنبياء القبيلة

مثلما أُفتتح العقد الثمانيني بحرب (1980)، اُفتتح العقد التسعيني بحرب ايضاَ (1991)، وكأن الحروب هي الثابت الوحيد الذي تتغير بتأثيره التجربة العراقية، وظلّ الشعراء العراقيون يوضعون في رحى الحروب حتى يخرج منهم آخر معنى للآدمية، انها معادلة الشقاء الابدي المكتوب على الشعر العراقي الذي ظل مرهوناً بالحرب وتجربتها المريعة.

الحرب تتلف الذاكرة، وتخون الضمير، وتسكب اللؤم في الروح الوديعة، لكنها – وَيَا للأسف – تظل تجربة إنسانية مُغَمّسة بالدم والعيون الجاحظة المفتوحة وانكماشات الاجساد وهي تُصّرع وتموت، ذات مرة كتب القاص والروائي المُغيب حسن مُطلك (احد ضحايا الكراهيات)، قصة قصيرة نشرها الروائي الصديق محسن الرملي في مجلة ألواح (اسبانيا) قبل عشرة أعوام او اكثر، عن جندي يعود (سالماً) من الحرب، لكن بشظية لعينة تستقر في الحوض، الجندي بجسد سليم وروح عليلة، كانت الحرب تَحّضرهُ كل ليلة حينما يبث الحياة بجسد زوجته الشابة الصغيرة، بينما الشظية كانت تفتك بعظام الجندي وتستجمع كل الرصاصات والآهات بداخله كحريق متواصل من اول الجبهة حتى نهاية الحب المؤلم على سرير الزوجة، بالنهاية، حضرت الحرب في غرفة الحب، وبدل ان تزهر الحياة، أزهرت الشظية في أحشاء الزوجة أسى عظيماً، فالجندي بينما كان يبتسم متظاهراً بالقوة، كانت الزوجة تشعر ان الشظية هي من تضاجعها وتفض بكارة آدميتها.

هكذا خرج الشعر العراقي من حقبة حرب الى حقبة اقسى تمثلت بحرب وحصار مُرّ. ومع هذه القسوة وتعاظم شتات الشعراء في المنافي، تبدلت اللغة الشعرية والمضامين التي تعالجها، تغيّر ذاك المزاج الذي كان يجد بالشعر حياته الكاملة، والواحة الشخصية الاليفة، بات متنفساً مع دخول التسعينيات اقوى من قدرة الشعر نفسه على تأمين الراحة النفسية او الطمأنينة التي يمنحها الشعور بالرضا الشخصي وسط الجوع وتعاظم قسوة السلطة.

عانى الشعر وانكسر، مثلما عانى الشعراء وتكسّرت قواهم وهم يجاهدون بين اللقمة الشحيحة وما يفرضه الشعر والانتماء للجو الثقافي من اشتراطات وتنازلات. تبدلت حتى الروح الحيّة للمجتمع العراقي، مع فرض خيار الاسلمة القسري الذي اقرّته السلطة كاندفاعة دعائية مضللة على هزيمة الخروج من الكويت، ومحاولة احتواء المجتمع مجدداً بشعار ديني يتناسب مع مرحلة الجوع الاممي المفروض دولياً، هذه التجربة الضاغطة بالتأكيد سَتُفّرِج عن سلوكيات مشينة واخرى نبيلة للشعرية العراقية.

فالشعر مع بداية التسعينيات بات مؤمماً بالكامل لصالح السلطة، بعد احتكار جميع المنابر، والانفتاح على “قصيدة النثر” ضمن “سياسة التنفيس” التي اتبعتها السلطة لتفادي انفجار شعبي على شاكلة (انتفاضة آذار 1991)، وكانت – السلطة – تعي تماماً انه مع تغوّل الجوع لن يصمد الشعر كثيراً امام تهشّم الطبقة الوسطى الصانعة له، وان العمود الكليشيهاتي بمديحه سيعود ليتسيّد الصفحات الثقافية.

ومثلما ابتدع حُراس الثقافة الرسمية (ادب الحرب)، ابتدعوا (ادب ام المعارك) و(ادب الحصار) او (سلسلة كتابة ضد الحصار) لاستيعاب المشهد الثقافي، لذا كان الانقسام الثمانيني في التسعينيات واضحة، الاصوات الابرز هرّبت نفسها الى خارج البلاد بمشقة، فيما الاخرون ظلّوا في الداخل تحت ربقة الحصار والتعسف الثقافي الحكومي، منهم من انعزل وانزوى وارتضى الكتابة في الظل ولم يتلّوث.

الهرب كان بديلاً مستحيلاً في التسعينيات:

[للمرة الثالثة في خلال عام واحد، ضاعفت الحكومة العراقية رسوم تأشيرات السفر الى الخارج لتصبح 200 الف دينار للعراقي الذي تزيد سنه عن 18 عاماً و100 الف دينار للذي يقل عمره عن 18 سنة (زادت فيما بعد ضعفاً واصبحت 400 الف دينار) بما في ذلك الاطفال. وتعكس الزيادة الجديدة القيود الاضافية التي تفرضها الحكومة على مواطنيها لاعتبارات سياسية وأمنية. الا ان تدفق العراقيين على الخروج من البلاد يوفر بموجب الرسوم الجديدة للتأشيرات، ايرادات ضخمة يمكن ان تتجاوز 40 مليار دينار عراقي سنوياً. يشار الى أن الحد الادنى للرواتب المعمول به في العراق، لا يزيد حالياً عن 5 آلاف دينار أقل من 4 دولارات أميركية]. (جريدة الحياة – 15/5/1995).

فيما ظلت مجموعة ملتصقة بالسلطة تعمل في صفحاتها الثقافية ومنتدياتها وجزءاً هاماً من مشهد (الاتحاد العام للادباء والكُتّاب في العراق) آنذاك. وبالطبع فأن الوشاية في حقل الجوع من اجل قبض الثمن، هي معوّل الشيطان الذي ينبش بالحقارة. وتوسع ذلك الفعل المُشين بالوشاية لحيازة رضا السلطة مدفوعة بالكراهية الشخصية والغيرة الفنّية وقلّة الموهبة. كان الشعر يضيع والسلطة تنتف ريش المعارضين.

لأول مرة يساق شعراء في تاريخ العراق الحديث الى الاعتقال لمواجهة حكم الاعدام بتهمة (التآمر لقلب نظام الحكم)، حين ساقت الوشاية والكراهية الشعرية عدداً من شعراء البصرة الشباب – آنذاك – الذين كانوا يؤلفون (منتدى الشباب) في العام 1992 الى المعتقلات، ليطلق سراحهم فيما بعد لعدم كفاية الادلة. فالتهمة الحقيقية كانت هي الشعر، بعد ان تمردوا على المؤسسة الرسمية ورجالاتها. كان مفتتحاً صعباً لعقد غريب من التحولات والتبدلات الشعرية.

عاد مجدداً في التسعينيات صراع الاشكال بعد ان جمدته في الحرب الاولى، حيازة السلطة للشكل التقليدي كواحدٍ من التوظيفات التعبوية. لكن بهذا العقد المشوّه ليس السلطة وحدها من تسعى الى التعبئة، فغول الاسلام السياسي وصعود الشعبوية الدينية ومظاهر البحث عن المقدس بمواجهة الانهيار الاقتصادي وتفشي الجوع والمرض وتشدد الرقابة، افلتت عيار الخيارات الحادة للتعويض عن الاستقرار الاجتماعي. فالشعبوية الدينية كان الشعر التقليدي (العمود) احد اسلحتها المثيرة للتعارك مع السلطة في استحضار المقدس الذي سينتقم للجياع، فيما كان شعراء السلطة يدبجون مطولاتهم العمودية على صفحات الجرائد الرسمية مديحاً بـ”القائد الاوحد” الذي أوجد له تاريخاً يضعه في شجرة المقدسين. فيما قصيدة النثر تظل ايضاً منبوذة خارج هذا التعارك بوصفها نصاً نخبوياً مائعاً لا ينتمي لزبائنية الواقع، لكن ايضاً طفر شعراء نثر الى حقل السلطة وباتوا يقسرون الشكل الحداثي على المديح الفج.

برز شعراء جدد في التسعينيات، بعضهم بدء خطوته في النصف الثاني من الثمانينات، ومنهم من كان نتاج العقد التسعيني ذاته، وعوضاً عن صراع الاشكال، بات الصراع يتمحور على اللغة والمضامين، وحركة الاندفاع والتجديد في ركود المشهد، وغالباً حتى النصف الاول من التسعينيات كانت الشعر يتمحور عند العتبة الثمانينية مع نضوج وفرادة اسماء مهمة، وقدرتهم على استيعاب الدرس الشعري السابق بتناقضاته، لكن الانكسار كان مهيمناً على روح المجتمع والشعر. ولعل فوز الشاعر طالب عبد العزيز بجائزة اللوتس عن مجموعته الاولى (تاريخ الاسى- 1994) مَثّلَ انتشاءً لروح الشعر وكتابته ولاعتبارية قصيدة النثر.

يقول طالب في نصّه تاريخ الاسى: (معني أنا.. بالغائب أكثر منك أيها الحاضر/ أيتها الطبيعة الخرساء.. بحفنة العشب على قبور قتلاك المجهولين).

ومع بروز كُتّاب الشعر التسعيني الشباب، واشتعال جدل الاشكال، كانت الروح غير الروح، واللغة غير اللغة، والانشغال كان هضبة معزولة عن مشغولات الشعر خلال العقود التي مضت، باتت النزعة الشعبوية تتسرب الى الشعر ومضامينه، فيما اللغة انعزلت بالتوصيفات المركبة او المنزاحة من معنى الى آخر. ربما ولد “جيل” متشابه السمات لا يمايزه الا المفردات التي يحرص كل شاعر على استضافتها بنصوصه دون غيره.

تقول داليا ابراهيم: “جعلنا الحصار مجموعة أفراد تسكن في غرفة واحدة. تقع أعينهم على المناظر ذاتها، يسمعون الشيء ذاته، ويقرأون الأشياء ذاتها، وتراهم، ربما نتيجة لذلك، يكتبون الأشياء ذاتها وبالأسلوب ذاته”.

ومع نهاية التسعينيات، ظهر وفقاً للتوصيف النقدي الذي شاع حينها “الجيل الضائع” الذي لم يكن ينتمي بروحه ونصّه واشتغاله وثقافته الشخصية لأي عقد او مناخ، بل تشكل بعيداً في جزره البيئية الخاصة ونضج وفقاً لفهمه الخاص للشعر، لذا كان ايضا انعكاساً لنهاية عصر المجتمع، وبداية عصر الشعبوية الاجتماعية مع انهيار بقايا الدولة في عام 2003.

الابرامز تخيط قمصان البشاعة

في عقد التسعينيات، انتجت السلطة القاباً لشعرائها المجيدون، كـ”شاعر ام المعارك”، ومع كل فعالية تعبوية كـ”يوم النخوة” و”يوم القدس” و”يوم الزحف الكبير” كانت السلطة تؤمم الشعراء وتخصصهم لأيامها، وبات لديها صفوف من الشعراء الذين يتنافسون على حصد لقب المناسبة التعبوية، ويقبضون من مكاتب الوزارة (الثقافة والاعلام)، حتى ان شاعراً ما كانت لديه قصيدة لكل مناسبة، ودعي ذات مرة للمشاركة بإحدى الفعاليات التكريسية فاستل من مكتبته نصاً لمناسبة اخرى، فأحرج على المنصة، ليُطلق دعابته السمجة “كل ايامنا اعياداً وانتصارات!”.

انهارت جميع تلك الانتصارات التي مجّدها شعراء السلطة، ولم تصمد الحدود التي قال شاعرٌ انتهازيٌ فاسدٌ لصدام “لو يمنحونك بعض الحدود” ليحرر “القدس”، لكن سلطة صدام انهارت على اعتاب حدودها حين دخلت الابرامز الاميركية الى قلب العاصمة قبالة وزارة الاعلام لتقصف مكتب الرئيس!

كان زمناً بشعاً، انهارت الدولة، وتحت بساطيل الاحتلال يتحرك الثأر، فيما الشعر العراقي الذي لم يعرف يوماً اصطفافاً وطنياً حول قضية، بات اكثر انشقاقاً على نفسه، فالقسوة التي صنعتها سلطة القرية بكل عنصريتها، افرزت فصاماً اجتماعياً ازاء فكرة الاحتلال، وانقسم المشهد الى مشاهد واراء وتوترات، ومهازل وعراكات، واتهامات بلغت حد تحريض شاعرٍ مجايل على شاعر ثمانيني بأنه يدعم “الارهاب” ويحرض عليه، فانتقلت الزبائنية الشعرية من سلطة البعث الى السلطة الجديدة، فبعد ان كانت سلطة قرية تحكم بلاداً شاسعة، باتت قرى تحكم البلاد المتقلصة على نفسها وكأنها شجرة متيبسة.

وكعلامة على انفلاش الوطنية، وبعد مضي 15 عاماً على الغزو والاحتلال وقيام سلطة فاسدة، لم يصدر اياً من الشعراء، فرادى او مجموعات، نصوصاً تدين الاحتلال بوصفه غزواً مرفوضاً تحت أي تبرير اخلاقي. مثلاً الشعراء الاميركان قدموا نموذجهم الانساني شعراً ضد دولتهم حين احتلالها لفيتنام، ونشرت تلك النصوص بترجمة الشاعر العراقي سركون بولص بمجلة (شعر) بعددها 39 للسنة العاشرة صيف 1968. وايضاً اندفع عدد من الشعراء الاميركان الى ادانة الحرب وبربريتها في العراق، ورفعوا صوتهم ازاء القتل والغزو. لكن صمت الشعراء العراقيون وما زالوا.

عقب 2003، فجأة وجد شعراء السلطة السابقة انفسهم مطلوبون الى السلطة الثقافية الجديدة، وباتت الهجرة هي سبيلهم بعدما كانوا سبباً بهجرة مجايليهم من الشعراء يوم كانت الهراوة الثقافية بايديهم، فاندفعت الكراهية مجدداً الى المشهد، لكن هذه المرة ممزوجة بالتصنيف الطائفي المفزع، ولأول مرة بات المشهد يتداول التصنيف المذهبي للخلفيات الاجتماعية للشعراء، واذا ما شاعرٌ رفض العبث الاميركي وفساد السلطة الجديدة، رُمي بعار طائفته، فيما مداحي السلطة المنقرضة باتوا مداحي السلطة المتولّدة، وبعد ان كان القصر يُغدق على الشعراء القابه “التشريفية”، بات شعراء السلطة من الصف الثاني يطلقون على انفسهم القاباً قداسية كـ”شاعر آهل البيت” و”شاعر الحسيّن” و”شاعر الطف” وصولاً الى حقبة “داعش” التي اطلق بها لقب “شاعر الحشد المقدس”، انه تدوير كارثي للمأساة بتجلياتها المضحكة، فحين تستخدم الكلمة بوصفها مادة ارتزاق لا يبقى للشعر قيمة معها سوى دناءة القائل ورخص الممدوح.

كسرت حقبة ما بعد 2003 احتكار السلطة للمنابر. وافرجت عن كل التجارب والتجريبيات، وبات المشهد متضخماً ومتشعباً وسط تهاوي المعايير وسقوط متاريس الحماية الذاتية للثقافة، فشاعت الانماط الركيكة والكتابة المفككة والهذيان الشعري وسط غياب دور المؤسسة القابضة المعنية بتنظيم المشهد والحفاظ على التماسك الفني للمنتج (اتحاد الادباء – وزارة الثقافة)، حتى ان معيار الاعتراف الرسمي بكاتبي الشعر، ظَلَّ مجرد اشتراط شكلي، بأن يحقق نشراً في 10 صحف ويدفع رسوم بدل الانتماء وفيما بعد كتاب مطبوع، وبالطبع فأن عدم الاكتراث وغياب المسؤولية دافعه الاساس هو الشعبوية الثقافية والسعي الى صناعة الانصار والتابعين والتسلق الثقافي، فبات الاتحاد بعد عقد ونصف، مرتعاً عظيماً للمواهب الضارة وصورة مقرّبة للهشاشة الثقافية وسقوط المعايير وتحويله الى مكتب سياحي لرعاية المجاملات، وعضويته مشاعاً مفتوحاً في بازار حصد الاصوات لانتخاباته، كمثال مُضاف للشعبوية السياسية والهيمنة الحزبية على القرار الثقافي.

وشاعت في الاعوام الاولى بعد الاحتلال قبيل اندلاع الاقتتال الطائفي (2006- 2007) ثنائية (ادب الداخل/ ادب الخارج) وما مورس عبرها من اقصاءات وعنف وتأجيج كراهية، حتى ان (مؤتمر المثقفين العراقيين – نيسان 2005) الذي دعت له ورعتّه السلطة الجديدة لتجسير الهوة بين مثقفي الداخل والخارج، والافادة من الخبرات لإعادة تأهيل الكيان الثقافي العراقي، فشل في ترتيب الفوضى الثقافية، واصطدم بحواجز تاريخية تعيق الذهاب الى المستقبل، فضلاً عن التراث الاستفزازي بين المثقفين انفسهم نتيجة الاشتباك الايديولوجي والسياسي والمواقف التي تداولوها بينهم طيلة عقود مضت، فمهمة تنقية الحقل الثقافي عسيرة وزراع الالغام كثر ينتقلون من حلبة الى اخرى بذات المناجل الحادة.

ولعل وفاة الفنان الكبير جعفر السعدي في حفل افتتاح المؤتمر، كانت اشارة بليغة لما سيحل بالثقافة العراقية، فهذا الموت على خشبة المسرح الوطني الذي بات اليوم مرتعاً لأعمال “مسرحية” هابطة ومقززة ضمن سياسة تنويع الدخل الحكومي، هو موتٌ تاريخي للجدية التي تحرص على الرصانة.

وعلى مدى اعوام قليلة، عقد اكثر من مؤتمر لرعاية الثقافة في العراق، بدءاً من مؤتمرات: (باريس 2004)، (بغداد 2005)، (عمّان 2007)، (بروكسل 2011)، ولعل اكثرها طموحاً كان (مؤتمر عمّان) الذي اقرّ استراتيجية ثقافية، وتأسيس (المجلس العراقي للثقافة) بعد تعاظم الدعوات الى جدوى وزارة ثقافة ميّتة يعشش بها الفساد والمصلحيات ويقودها وزراء عسكر وارهابيون وعنصريون ووكلاء وزارة حزبيون وطائفيون يغرقون بالفساد، لاسيما النهب العام لمشروع (بغداد عاصمة الثقافة العربية 2013).

كان ضحية الكراهية وسط العنف المشتعل في العراق المثقف (كامل شياع – اواخر آب 2008) الذي اغتيل وضاعت قتلته بين القبائل السياسية والطائفية المتشاطئة بالدم في العراق. لم يكن المثقف الاول الذي قُتل. فالرصاص لاحق مثقفون بعثيون ومستقلون على حد سواء، ومعظمهم ذهبت قتلته على اساس الشبهة الطائفية، منهم شعراء لم تكن الطائفة مكسباً لهم، كانوا على الحياد الاجتماعي الايجابي الذي ينتمي الى المواطنة لا الى “الطائفة المنصورة” اياً كانت. وخلال سني الاقتتال الطائفي، اودت الكراهية بـ (الناقد قاسم عبد الامير عجام – ايار 2004) و(الشاعر أحمد آدم – ايار 2005)، و(الشاعر رعد مطشر – آيار 2007)، و(الشاعر الشعبي رحيم المالكي – حزيران 2007).

الكراهية وحدها لم تكن قتلاً، فالموت المعنوي هو موت اقسى من رصاصة تحيل الشاعر الى جثة، كأن يغدو شريداً بخيمة في صحراء وطن منهوب، فحياة شعراء المدن التي احتلها التنظيم الارهابي (داعش) كانت جحيماً مُضافاً يكسر روح الشعر وجدوى الكرامة. كُثرٌ باتوا في عراء المخيلة وهي تلتحف الصبر بقسوة الرمل الذي يطش المرارة في عيونهم، كالشاعر نامق عبد ذيب ونضال العيّاش وحمد دوخي واحمد عزّاوي وآخرون كُثر. ضاق عليهم الوطن كالمقصلة العمياء.

يقول نضال العيّاش في رائعته عن تجربة الشاعر الطريد في البلاد المُخرّبة: [من أين نعبر والجهات تهرّبت/ فاذا المعابرُ كلها تابوتُ].

ميليشيا الكراهية

الانقسام السياسي – الطائفي، افرز كراهيات جديدة في الحقل الشعري، ونمّا اوهاماً زائفة بادعاء الابوة لدى بعض الشعراء، ومنهم من اراد الانتقال من وظيفة الرقيب الثقافي والناشر الصحافي في حقبة التسعينيات الى لعب دور “الاستذة” و”الابوة” على الموجة الجديدة التي اعلنت عن نفسها ضمن الجسم الشعري العراقي، حتى تنازع كٌثر من فَشَلة النص الثمانيني/ التسعيني على حيازة “نبوة” ما بعد 2003، ولعل هشاشة طيف من الشعراء الجدد ثقافياً جعلتهم ينساقون الى تلك الدعوات، الا مجموعة صغيرة حافظت على نفسها باستقلالية عن المؤثرات الدعائية ورغبات “الانبياء” الجدد وهم يسعون الى “مجدهم”.

فتح انهيار الدولة القابضة المركزية، ميزاب تدهور ثقافي مرعب، لذا لابد من اعادة ترسيم المشهد وتأثيث تقاليد تطرد كل القوالين وتبقي على المشتغلين الحقيقيين في البيدر، لا يمكن ان نمضي قدما في “مهزلة” التفريخ اليومي للاسماء والنصوص، واغداق الالقاب وفتح ابواب الصفحات الثقافية والمطبوعات مشرعة دون أي مسؤولية اخلاقية او ثقافية في الحفاظ المبنى الثقافي العراقي.

زلزال بغداد 2003، هَشّمَ أي قيمة متبقية لهيبة الثقافة والكتابة والشعرية، فبعد حرب التخوين والتي جعلت من اصوات عدة تنزوي وتصمت، فُتحت مصاريع الكتابة غير المسؤولة، المشهد صار سوقاً بغيضة لسلع بشعة، الاف من الشعراء، الاف من القصاصين، الاف من المنظرين، وعشرات الالاف من الصفحات الثقافية التي انتجت منذ 15 عاما، فضلا عن مواقع السوشيال ميديا التي فرخت لنا مشبوهين. بعد كل هذا، اين صارت الكتابة الشعرية؟!

العنف الذي طبع عقد ما بعد الالفية، ووحشية الجماعات الاسلامية المسلحة وابرزها (داعش) والفضائع التي ارتكبت طيلة السنوات التي مضت، خلفت جروحاً نفسية غائرة، وتقمّص بعض كُتّاب الشعر ممن هم خارج التجربة العيانية المباشرة، هذا العنف وادخلوه الى الكتابة بوصفها المادة المثيرة التي تجتذب الاهتمام الى النص، عبر اختيار سياقية لفظية وبنائية تسعى الى تسويق المعاناة والعنف والدم والرفض كـ”سلعة” رائجة لدى متلقي من كيان ثقافي مختلف تاريخياً وسلوكياً (الاوربيون مثلاً)، وتلك البنية السلعية ركزت على التطرف في الكتابة، وقسّر الشعر والنثر وجرّه كمختطف الى منطقة التفريغ اللفظي والشكلي للعنف بعنف مواز، وحينها تحوّل الشعر الى اداة مقززة لتحقيق الشهرة.

ولعل اختيار المجموعة التي اختارت لها هذا المسلك من الكتابة العمياء السلعية بوصفها كتابة زبائنية ايضاَ، عنواناً مريعاً هو “ميليشيا الثقافة” يكشف عن طريقة التفكير العنيفة لتلك المجموعة التي انفض عنها عدد من مؤسسيها سريعاً، وبقاء مجموعة اسرفت كثيراً في استعراضات شكلية كالتعري ووضع الاحذية بالفم والنوم في العراء و”التطيّن” وقراءة ما يكتبونه في الخرائب والمقابر وغيرها من الاماكن الغريبة، كأنهم مجموعة دينية خلاصية غنوصية قادمة من اقبية الاخويات المؤمنة بنهاية العالم، لا كشعراء يرفضون العنف وتأجيج الكراهيات واستغلال المعاناة لتسطيح الازمة الوطنية المريرة.

ففكرة ان يختار “شعراء” تأسيس جماعة رفض شعري باسم “ميليشيا” وينتهجون نهجاً غرائبياً بكتابة لم تحقق شرطها النقدي او الاجادة الفنية، يمثل استهتاراً بالقيّم السلّمية الثقافية، وتداعياً حراً مع فريضة تأسيس الميليشيات ما بعد 2003، وتمّثل عملي لتقمص العنف والترحيب به لا رفضه. انها فكرة مرعبة، تنطوي بذاتها على روح الاقصاء، ويعي تماماً اصحاب هذه الفكرة، انهم لو اسسوا مجموعتهم كـ”مجموعة سلام شعرية” لا عنفية، لن يحقق لهم الانتشار والشهرة والتمايز الدعائي، ولعله ايضا تناغم مع صعود المد الشعبوي الديني والاجتماعي، وتفاعل مع فكرة انهيار الدولة والثقافة والمجتمع وقيّمه.

ويقول احدد مؤسسي هذه الجماعة التي تطلق توصيفات يومية على انها بيانات فكرية: “خيارنا الوحيد أن نكون «ميليشيا ثقافة». فميليشيا الثقافة ليست تقليعة عابرة، بل خياراً وجودياً يحتم على كل منتج رؤية أو خطاب ان يمارسه لمعرفة ذاته اولاً”.

لكن مع اول نقد من داخل المجموعة ذاتها قاد ابرز “الميليشيا” ومجموعته المتعصبة هجوماً تكفيرياً على (احد اعضاء المجموعة) والمتفقين الاخرين مع رأيه لكونه اراد فقط التفكير خارج صندوق “الميليشيا” المقفل على الايمان الغامض بالفكرة المريعة. يقول: “لكننا نأسف فعلا لان (فلان رفعت الاسم لتجنب الشخصنة) قال على لسان أحدنا (الميليشيا مستعجلة) أو (أنا لا أؤمن بالميليشيا) وغيرها من الأشياء التي تسيء لسمعتنا كشعراء”!

هل عدم الايمان يستوجب التكفير الشعري؟ ويضيف في بيانه التكفيري لمعارضيه: “من هنا كان مفهوم الضيافة، فالضيف هو الغريب الذي لا ينسجم مع مجموعة المفاهيم الواردة والمتفق عليها رغم وجوده معنا، فالأصدقاء (يذكر مجموعة اسماء) ظلوا يطوفون حول التقليعة غير قادرين على التنافذ معنا والولوج إلى المحتوى الدلالي للظاهرة الشعرية بكل تفاصيلها، فنحن لم نكن نتوقع كل هذا التشويه من قبلهم ومحاولة سرقة جهود الآخرين بهذه الطريقة الساذجة، فقد اثبتوا أنهم ضيوف وقد حان رحليهم إلى الأبد”.

هذا الخطاب المقتطع من بيان طويل، يتكرر بذات اللهجة العدائية وروح الطرد، وعدم تقبل الآخر، والضيق من النقد الذي يواجه به أي شاعرٍ او مثقف، في البيانات المطوّلة التي تظهر بعد كل انتقاد لتصرفات “الميليشيا” تنزع عن الاخرين خصيصة الايمان بالشعر، وتقتصره على الايمان بـ”الميليشيا” بوصفها “ضرورة تاريخية”، الا يماثل هذا الخطاب، خطابات الجماعات المسلحة والميليشيات الدينية وتنظيم الخلافة؟!

اليست هذه الروح المتعصبة الرافضة، هي التي تُسيّر الذين يريدون خلق مجموعات احادية مغلقة تؤمن بزعيمها الفقيه وتكفر من يرفض الطاعة؟ اهكذا يُصنع الشعر؟! – بالنتيجة “ميليشيا الثقافة” التي بشّرت بدعوية جديدة انفلشت وكشفت عن كونها استدعاء عنفي يعكس حالة الاضطراب الذي يعيشه المجتمع في ظل الاحتكام الى فائض القوة. انها واحدة من خلاصات القهر النفسي وكل الكراهيات التي طبعت العلائق البينية في الشعر العراقي عبر تجريباته المتعاقبة.

أضف تعليق