صفاء خلف
نشر في السفير العربي – 02 تشرين الاول/ اكتوبر 2022
أشَّر ارتفاع مستويات الهشاشة العامة، الإجهاد الاجتماعي، ونزوح المجتمعات الريفية المُستقرة الى مدن تشهد تنافساً مضطرداً على الخدمات والفرص؛ على قوة التأثير المشترك والمتزامن لعاملي الاختلال البيئي في العراق: [تغيّر المناخ ونُدّرة المياه]، التي باتت تتفاعل في “دائرة علاقة سلبية مزدوجة بين تدهور البيئة والنزاعات المسلحة” وفقاً لوثيقة التنمية الوطنية (2018 – 2022).
التوقعات المستقبلية تقود الى اتساع أثر عاملي الاختلال البيئي نظراً لتظافر مؤثرات [التجمع الكارثي][1] الثلاث [العنف/ الفقر/ المناخ] في العراق كنموذجٍ مثالي لقياس تأثير “حدة الأثر البيئي”[2]، بظل عجز الاستجابة الحكومية مع غياب أدوات التفكير والتخطيط المُسبق لإدارة المخاطر، وتعسّر تمويل خطط التكيّف الوطنية من تمويلات الطاقة غير النظيفة.
يقع العراق كأكثر منطقة تعاني ضعفاً وهشاشة بيئية في المرتبة 129 من أصل 181 دولة في مؤشر ND Gain – 6، متموضعاً في قلب التأثيرات العنيفة للتطرف المناخي والنُدّرة المُطلقة للمياه، التي ستؤدي في العقدين المقبلين الى جعل العراق بيئة غير قابلة للحياة نتيجة الزيادة المفرطة بدرجات الحرارة، قلة الامطار، نقص المياه السطحية والجوفية، اشتداد حِدة العواصف الغبارية، الجفاف والتصحر، ما يعني تراجعاً زراعياً وتحطماً لسلاسل الغذاء، وتزايداً لأنشطة حكومية وبشرية ضارة بهدف تقليل آثار الانقلاب المُناخي.
المستهلك الأعظم
افترضت الحكومة إن زيادة نسبة مساهمة الزراعة في الناتج المحلي الإجمالي (GDP) من 4.5 في المئة المُسجلة كهدف في 2015، الى 5.2 في المئة في 2022، بتحقيق قفزة نمو بـ 8.4 في المئة، قد يُفضي الى تقليل الاعتماد على ريّع الطاقة المولدة للتدهور المناخي، وآلية مُنتجة لتثبيت الحركة السكانية في مناطقها الاصلية عبر مواجهة التصحر وفقدان الأراضي، فضلاً عن خفض الاحترار. إلّا إن المساهمة الزراعية تراجعت الى مستوى أدنى من المتوقع لتُسجل 2 في المئة على مدى سبعة أعوام لاحقة.
خَفضُ الجذب الاستثماري الحكومي لقطاع الفلاحة الى 3.4 في المئة، رسّخ هامشيته في الدورة الاقتصادية كخيار غير مستجيب لخطط الانعاش، ما أحبط صغار المزارعين ومربيّ المواشي، وأشعرهم بمواجهة “حدة الأثر البيئي”، وسط عطالة الاستجابة الوطنية والانتقائية الحكومية عبر إلغاء المواسم الزراعية.
قطاع الزراعة الذي يعد الأكثر تضرراً بالجفاف، يُحتسب ايضاً كأكبر مستهلك للمياه، وثاني مصدر هدر لها على المستوى الوطني بعد التبخر.
يستهلك العراق عادةً 63 في المئة من مياهه على الفلاحة في أعوام الغنى المائي، وفي سنين القحط الهيدرولوجي كالعام 2020، وظّف زراعياً 32 مليار م3، خسر منها كضائعات مُطلقة نحو 7.1 مليار م3، وعشرة مليارات م3 أخرى كمياه بزل متملحة عديمة الفائدة. ما يؤشر على هدر مائي لا تقابله وفرة إنتاجية. فناتج الدونم العراقي 350 كلغم فقط، مقارنة بالمعدل العالمي الذي يصل الى ثمانية اضعاف.
شكلت الزراعة نحو 4 في المئة من (GDP) في أعوام سابقة، واسهمت بنحو 20 إلى 30 في المئة من سوق العمل، وغالباً في الأرياف. وبسبب عاملي الاختلال البيئي والنزاعات المسلحة، انخفض الإنتاج الزراعي بنحو 40 في المئة منذ 2014، وفقد ثلثي مُزارعي العراق قدرة الوصول الى مصادر الريّ. وبعد ثلاثة أعوام اخرى (موسم 2017 – 2018) انخفض الثلث المتبقي الى 20 في المئة، مع فقدان 75 في المئة من الثروة الحيوانية كالجاموس، مما عزز تنامي الفقر والنزوح.
النقص المائي: البيئة الطاردة
وعبر تدابير غير فعالة تُعجّل باستنزاف الاحتياطيات السطحية والجوفية، تناقصت تدفقات مياه العراق على نحو متسارع منذ بدء تركيا وإيران باحتكار المصادر الهيدرولوجية، وحرماناً مُدمراً قد يُفقد بلاد الرافدين مزيداً من الواردات العابرة للحدود بنحو 80 في المئة بغضون 2025، مما سيُفاقم من “حدة الأثر البيئي”.
خسر العراق بسبب سياسات دول المنبع أزّيد من 60 في المئة من الثروة المائية خلال 100 عام، وتدهور مستوى انهاره التاريخية نحو عشرة أضعاف – من 1350 م3/ ثانية في 1920، الى أقل من 150 م3/ ثانية في العام 2021 -، فثلاثة أرباع موارده المتجددة تتغذى من تدفقات خارجية، بيّنما تُزود منابعه الوطنية دجلة بـ 32 في المئة، و3 في المئة فقط تصب في الفرات، ما انعكس على تراجع مياه الفرد من 5900 م3 في العام 1977، الى اقل من 240 م3 حالياً.
وبيّنما يتجاوز العراق عجزه المائي باتجاه الحراجة المائية، يواصل الطلب على مياه الاستهلاك المنزلي الارتفاع من 5.3 مليار م3 سنوياً منذ 2020، إلى 10.94 مليار م3 سنوياً عند 2035، حيث ستتفاقم الفجوة بين العرض والطلب إلى 11 مليار م3 سنوياً، وعجزاً مائياً بـ 37 في المئة. لذا قطاع المياه يعد الأقوى هشاشةً بمواجهة التبدل المناخي، والأسرع استنزافاً مع ميل متصاعد نحو النُدّرة والجفاف المؤديين الى تحقق توقعات مؤشر الاجهاد المائي عند مستويات النُدّرة الخطيرة بـ3.7 نقطة من اجمالي نقاط المؤشر الخمس، وصولاً الى 2040، حيث النُدّرة المُطلقة بـ 4.6 نقطة، ما يعني جفافاً تاماً وشمساً مُحرقة وبيئة سامة طاردة.
وكبداية مُرعبة، سجلت السلطات العراقية في 2020، تدني التدفق القياسي لإيرادات دجلة والفرات من دولتي المنبع والمغذيات المحلية الى 49.59 مليار م3 فقط. بيّنما سجل تقرير المحاسبة البيئية الاقتصادية للمياه نحو 39.64 مليار م3. وفي الحالتين التصاريف أقل من الطلب العملياتي بنحو 50 في المئة على الأقل. مقارنة بالعام 2019، الذي سجل تصاريفَ محلية واقليمية بنحو 93.47 مليار م3. لذا تدرس الحكومة حظر زراعة الأرز والذرة والمحاصيل كثيفة المياه، ما يعني تشريد عشرات الاف من العائلات المُستقرة، وتوسعة بيئة الفقر والعنف.
حدد البلاغ الوطني المناخي الأول 2016، كلاً من الاهوار، الغابات والمناطق الجبلية، البحيرات والأنهار السطحية، كمواقع أكثر هشاشة وتأثراً بالنُدّرة والتغيّر، حيث اضطرت بعضاً من التجمعات السكانية القاطنة في المناطق المُهددة الثلاث الى النزوح وهجر الموائل التاريخية، وهو ما قد يفضي الى تنافس أوسع على المياه والأراضي لا يمكن إدارته بالأدوات التقليدية المؤسسية المتوافرة لدى الدولة، وسط تنامي نمط جديد من العسكرة المستجيبة لـ”حدة الأثر البيئي”.
عسكرة المياه والمناخ، تمثل مستوىً عالٍ من مهددات الأمن الوطني، وتستدعي تفككاً للعقود الاجتماعية وانهياراً للمجتمع المؤسسي، ونشوء مجموعات متفوقة وضعيفة، وصولاً الى تفكك العراق التاريخي نتيجة انهيار بيئي قد يكون مشابهاً للنهاية المناخية المفاجئة للعصر الحجري الحديث (العَبيدي) في العراق عند 3800 ق.م، إثر ارتفاع مستوى الخليج، وبداية نشاط الكثبان مع زيادة في الجفاف والتصحر تحت درجات حرارة لاهبة.
تبخر الثروة المائية
تبدأ السنة المائية العراقية مع موسم الإدرار المطري في الحوض الاقليمي لنهري دجلة وفرات، من تشرين أكتوبر وحتى سبتمبر من السنة اللاحقة، وبموجبها تتحدد الفلاحة الصيفية والشتوية.
تغذي الأمطار الهاطلة على الاراضي العراقية بنسبة 20 في المئة، عموم مستجمعات المياه السطحية الوطنية (الانهر، الروافد، البحيرات والاهوار) بنحو 15.4 مليار م3، فيما تتعرض 75 في المئة من الأمطار البالغة 57.8 مليار م3 الى التبخر الناتج عن التطرف الحراري. خمسة في المئة فقط تجد طريقها الى مكامن المياه الجوفية بواقع 3.8 مليار م3.
ساعات التعرض الشمسي الطويلة والمحرقة، رفعت معدل التبخر إلى ثلاثة م3 / الثانية، لاسيما الاهوار وبحيرات التخزين. الثروة المائية المهدورة تبخراً تشابه هدر أطنان من الغاز الطبيعي الثمين المحروق يومياً. ما يجعل التبخر، المؤثر الطبيعي الأول الذي يُسهم بازدياد النُدّرة، ويمنع حصاد الامطار لتكون بديلاً عن مصادر التغذية الخارجية للمياه السطحية المتناقصة.
يستهلك التبخر نحو 15.7 مليار م3 سنوياً، ما يعادل 14.5 في المئة من حجم الاستهلاك الكلي الوطني. فغالباً ما تتجاوز الحرارة في العراق الـ53 م° صيفاً، سيما المناطق الجنوبية المُنتجة للنفط أو تلك التي تشهد نشاطاً متزايداً لانبعاثات “الميثان”، ما يتسبب بهلاك المزروعات والجاموس والتنوع الإيكولوجي، ويرفع من سُمية مياه الشُرب، وآلاف الحرائق سنوياً.
حريق التطرف الحراري
الارتفاع المفرط لحرارة العراق مقلق ومحيّر، نتيجة عوامل محلية متداخلة مع المُتغيرات المُناخية عالمياً. والتوقعات المبنية على النماذج المناخية العددية الوطنية تشير إلى زيادة مضطردة في درجة الحرارة تتراوح بين (0.9 م°) منذ 2007 وقد تصل إلى (3.5 م°) العام 2100.
ومقارنة بالارتفاع المتوقع لدرجة حرارة الكوكب المقدرة خلال العقدين المقبلين بـ 1.5 م°، وفقاً للتقرير المرعب الذي أصدرته الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغيّر المناخ IPCC، سترتفع حرارة العراق في الفترة القياسية ذاتها، بمعدل درجتين مئويتين. بيّنما يعتبر تقرير الأمم المتحدة لتوقعات البيئة العالمية (GEO-6) إنها ستكون أسرع بسبع مرات من متوسط المعدل العالمي، حيث صَنَّفَ العراق على أنه خامس دولة في العالم تعاني من التأثيرات الشديدة والمباشرة لتبدل المناخ، متوقعاً انخفاض الهاطلات السنوية بنسبة تسعة في المئة بحلول 2025، مع زيادة مستويات الملوحة إلى 50 ضعفاً.
برنامج الأمم المتحدة للبيئة اعتبر إن “آثار تغير المناخ على التنمية في العراق يتم تجربتها بالفعل”. ففيما يُصنف بالمرتبة 39 كبلد مُجهد مائياً، ينهش التصحر مساحات واسعة من أراضيه سنوياً بسبب الممارسات غير المستدامة وتقلص الغطاء النباتي وتلفه.
تصحر ونزوح وحرمان غذائي
يخسر العراق مئة ألف دونم سنوياً نتيجة التصحر وتملح التربة. فيما نقص مليار م3 من المياه يدفع كل مرة نحو 260 ألف دونم خارج الفلاحة. ومنذ العام 1970 خسرت بلاد ما بين النهرين 50 في المئة من أراضيها الزراعية. ووصولاً الى 2020 باتت الأراضي المهددة بالتصحر في عموم التراب الوطني نحو 94.3 مليون دونم، فضلاً عن تصحر 27.2 مليون دونم فعلياً، فيما اتسعت حركة الكثبان الرملية الخطيرة في قلب السهل الرسوبي الخصب الى 4.2 مليون دونم. اجمالاً نحو 92 في المئة من المساحة الكلية للعراق متصحرة أو مهددة بالتصحر.
تحول أراضي العراق الخصبة الى صحاري خلق حلقة مفرغة من انهيار بيئي، تنتج تدميراً لسلاسل الإنتاج الغذائي، وتراجعاً لمساهمة الفلاحة في الناتج الوطني، وملاييناً تحت خط الفقر. فتفكيك المجتمعات التاريخية المتماسكة قد يقود الى نزوح متعدد المستويات وصراع أهلي مرير، يهدد استقرار منظومات الإدارة والحكم، وينذر بمزيد من الإجهاد الاجتماعي وتهشم الديناميكيات الحيوية للمدن على استيعاب موجات الهجرة، ما سيزيد من حجم الهشاشة.
تعد فترات الجفاف الطويلة عاملاً حاسماً في شدة الحركة السكانية (النزوح). حيث شهد العراق اتجاهاً متزايداً نحو الهجرة المرتبطة بندرة المياه منذ العام 2005، برزت حدتها في العامين الأخيرين، لاسيما في الاهوار الجنوبية التي كافح العراق طويلاً لإدراجها على لائحة التراث العالمي، كوسيلة ضغط ناعمة لضمان مياه أكثر من دولتي المنبع؛ لكن المنطقة الموغلة بالقدم – بل والتي تُعتبر مهد البشرية [3] – باتت منكوبة مناخياً، وتواجه موتاً متسارعاً وفقراً كارثياً تسبب بنزوح وشتات 6000 أسرة بعد أن فقدت جواميسها النادرة وفقاً لمنظمة الفاو.
منظمة الهجرة الدولية (IOM) باتت تُنتج مصفوفات هجرة مُستقلة على اساس التغيّر والنُدّرة، بدءاً من صيف 2020. وأشّرت في 2019، نزوح 21.314 فرّداً عن في 145 منطقة لشح المياه وارتفاع الملوحة في تسع محافظات وسطى وجنوبية.
وفي مارس 2022، أعلنت ان 20.148 فرّداً نزحوا منذ آواخر 2021، من بينها 25 عائلة نزحت نتيجة قتال قبلي على المياه، فضلاً عن حركة سكانية ضخمة ناجمة عن جفاف الأهوار، بما نسبته 81 بالمئة في ذي قار و33 بالمئة في ميسان و12 بالمئة في البصرة. لذا يقترح كلاً من مركز رصد النزوح الداخلي IDMC والمجلس النرويجي للاجئين NRC في تقرير طارئ تسمية العراقيين المكافحين على البقاء في الجنوب بـ”الصامدين”.
قبل ذلك، رُصد نزوح 20.000 فرّد من التجمعات الزراعية في العام 2012. وأكدت منظمة يونسكو إن أكثر من 100 ألف نسمة من سكان شمال العراق نزحوا عن قراهم بسبب النقص المائي الحاد بين عامي 2005 و2009.
اعتبرت منظمة الفاو، الأراضي المزروعة فعلياً في العراق التي تعادل 13.24 مليون دونم، إنّما تمثل 58 في المئة من إجمالي المساحات الصالحة للزراعة المروية والديمية المقدّرة بـ 44.46 مليون دونم، وهي نسبة متدنية وغير مُشجعة مقارنة مع معدل الأراضي المثيلة في الشرق الاوسط وشمال افريقيا البالغة 62 في المئة، حيث أظهر مسح أوروبي عام 2021 شمل 7 محافظات، أن 37 في المئة من مزارعي القمح و30 في المئة من مزارعي الشعير يعانون من فشل محاصيلهم بسبب الجفاف، الذي يحول ايضاً دون عودة النازحين الى مناطقهم الاصلية التي نزحوا عنها مجبرين تحت وطأة “حدة الأثر البيئي” والصراع المسلح.
وسع الجفاف الفجوة الغذائية في المناطق المتضررة في عموم البلاد، لدرجة إن واحدة من كل أسرتين في سبع محافظات مُنتجة زراعياً شملها مسح NRC في 2021، بحاجة إلى مساعدة غذائية، وواحدة من كل خمس أُسر ليس لديها ما يكفي من المؤنة تكفي جميع أفرادها. فيما الاطفال باتوا يحصلون على كميات طعام أقل.
استنزاف المياه البديلة
ومع تناقص المياه السطحية، يتجه ضغط الطلب المتزايد الى استنزاف المياه الجوفية بكميات تفوق قدرتها على التجدد ما يحتم نضوبها مع تسارع السحوبات الجائرة[4]. فالمياه المتجددة في المكامن الجوفية بالكاد تصل الى 4 في المئة سنوياً، فالحوض الإقليمي لدجلة والفرات بات يسجل ثاني أسرع معدل خسارة للمياه الجوفية في العالم بعد الهند. ما يُفسر الجفاف المؤلم لبحيرة ساوة التاريخية نتيجة آلاف الآبار غير القانونية التي حفرها مستثمرو الإسمنت والمزارعون المحليون، فضلاً عن الحركة المفاجئة للصفائح الارضية التي اغلقت قنوات التغذية الجوفية، بعدما ضرب العراق في 2020 لوحده، نحو 308 زلزال وهزة ارضية خفيفة الى متوسط الشدة، كمظهر مضاف الى فعاليات الاختلال البيئي.
يواجه المزارعون الكرد الجفاف بالاعتماد على الأمطار الشتوية، والمياه الجوفية التي تؤمن 25 في المئة من حاجة كردستان ما نتج عن تراجع مستوياتها بمقدار 500 متر خلال السنوات العشرين الأخيرة، لنقص المياه السطحية نتيجة الضغوط المتزايدة لتغير المناخ، سوء الإدارة، وسياسات دولتي المنبع. قطعت إيران مؤخراً 12 رافداً، تزامناً مع تجفيف تركيا لنهر هيزل. حتى أن إدارة كرميان (جنوب شرق الاقليم) أعلنت جفافاً ونزوحاً لنحو 37 عائلة أواخر صيف 2022، لذا تخطط الحكومة الكردية بناء 245 سداً تضاف الى 17 سداً قيد التشغيل، وسط مخاوف بأن يكون حبس المياه عن بقية البلاد سعياً لتحقيق غلبة سياسية على بغداد.
غبار مُكلف وانبعاثات جوّالة
وزارة البيئة باتت تسجل 122عاصفة ترابية و283 يوماً مغبراً. وتتوقع المراصد البيئية الدولية أن تصل الموجات الغبارية الى 300 موجة سنوياً تضرب غالبية العراق، ويمكن لنشاطها الغباري المدمر أن يُنهي الحياة الزراعية والتجمعات السُكانية. قُدّرت معدلات تركيز الغبار المتساقط بنحو 80 ملم/ م2/شهر، بينما معدل تساقط الأمطار صار اقل بكثير، وباتت تكلفة يوم واحد مُغبر ما يزيد عن 10 ملايين دولار طبقاً لوزارة البيئة.
يُمكن أن تتضخم الكلفة البيئية الوطنية الى ما بين 8 – 15 مليار دولار سنوياً كفاتورة ضرر مناخي طبقاً لدراسة البنك الدولي في 2019، قياساً لما رُصد في 2013، حيث عانى العراق من 10.400 حالة وفاة مبكرة بسبب الغبار، ما كلف الاقتصاد قرابة 15 مليار دولار، أو 3 في المئة من (GDP)، فيما تعطيل الحياة اليومية وفقدان المحاصيل كلّف 13 مليار دولار.
وبيّنما تنكر إيران وتركيا مسؤوليتهما عن النشاط الغباري المتزايد في العراق نتيجة حبس وقطع المياه عنه كمسعى لاحتكارها وتحويلها إلى أداة سياسية ضمن ديناميات ادارة الصراع الإقليمي في المنطقة، تدفعان باتجاه إرغامه على الاعتراف بأن إهماله لبيئته يسبب ضرراً لهما، حتّى إن الخارجية الايرانية اعتبرت الموجات الغبارية القادمة من العراق “أزمة وطنية مساوية لخطر الإرهاب” ضمن تصنيفات الانشطة المعادية لها في المحيط الإقليمي.
تشكل الانبعاثات الغازية الجوالة، تهديداً مضافاً لبيئة العراق، رغم إن المؤشرات الحكومية المُعدة للتداول المحلي أو لصناع القرار الدوليين، غالباً ما تخلو من أية اشارة الى ملوثات الاستخراج النفطي ومحروقات الغاز المهدورة، برغم تأكيد وكالة الطاقة الدولية (IEA) بأن العراق مسؤول عن 8 في المئة من انبعاثات غاز الميثانالعالمية الناتجة عن استثمار النفط والغاز، مُحتلاً المرتبة 33 من بين 220 دولة ومنطقة تسهم بنحو 63 في المئة من الانبعاثات الدفيئة العالمية.
غالباً ما تَتَجول سحائب من الميثان في اجواء العراق بسبب الاستخراج غير النظيف. ففي يوليو 2021، أطلق حقل غرب البصرة، ميثان بمعدل 73 طناً في الساعة، عقب انبعاثين آخرين أواسط يونيو من العام نفسه، بمعدل 181 و197 طناً في الساعة، ما يوازي احتباساً حرارياً يُحدثه متوسط الانبعاثات السنوية لأكثر من 200 ألف سيارة في المملكة المتحدة.
وكنتيجة لحالة الإنكار الحكومي لحجم الانبعاثات الدفيئة، بالتواطؤ مع شركات الإنتاج العالمية العاملة في العراق، فأن الحكومة ماضية برفع الانتاج النفطي والاستثمار في تحرير الغاز، معلنة إن المساهمة الوطنية لخفض الاحترار المناخي العالمي حتى العام 2030 ستتراوح ما بيّن 1 الى 2 في المئة فقط، و15 في المئة شريطة 100 مليار دولار من الدعم الدولي لـ”خفض الانبعاثات وتكييف القطاعات وتحقيق الأمن”.
حِدة الأثر البيئي باتت تتضاعف في العراق[5]، مقترنة بزيادة الفقر، البطالة، النمو السكاني واقتصاد متعثر. لذا لا يمكن للعراق انتظار عالم مثالي لإدارة موارده بشكلٍ أفضل، دون اصلاحات تستهدف توسعة القابلية الوطنية على التحكم بالمياه، والتخلي عن سياسة عدم الاكتراث بالمهدورات الوطنية اعتماداً على تعويضها من التدفق المتناقص من دول المنبع. بالمقابل تبدو فاتورة الاصلاح المائي باهظة، وتستهدف تمويلاً يفوق الموازنة العامة بنحو 172 مليار دولار حتى العام 2035، مع استثمار ثماني مليارات دولار سنوياً لمعالجة مياه الصرف للحد من التلوث والضياعات المائية.
الهوامش:
1: وفقاً لرؤية الصحافي البيئي كريستيان بارينتي في كتابه (Tropic of Chaos).
2. ستتم الإشارة في هذا المقال الى التأثيرات المشتركة لكلٍ من “عاملي الاختلال البيئي” والمؤثرات الثلاث لـ”التجمع الكارثي” ونتائجهما المدمرة كالفقر والنزوح والعنف بـ”حدة الأثر البيئي”.
3. Jean Bottéro, Mésopotamie, L’écriture, La raison, Les dieux. Gallimard, Paris 1987
4. وفقاً للهيئة المياه الجوفية في 2022: بلغ عدد الآبار المُسجلة في العراق نحو 88725 بئراً، مع وجود آلافاً اخرى حفرت بشكل جائر.
5. أظهر مسح نفذته (IOM) لعينة تمثل غالبية سكان البصرة أواخر 2021، لرصد موجات “النزوح البيئي” من ارياف المحافظات المجاورة، ان ما نسبته 15 بالمئة ممن وصفوا بـ”العائلات المُستقرة”، وتسعة بالمئة من “العائلات الوافدة” لديهم افراد مجندون في الأمن والجيش والميليشيات، منوهاً الى إن العائلات الاكثر هشاشة اقتصادياً تميل الى عسكرة افرادها بدرجة أعلى من غيرها.